31 أكتوبر 2025

تسجيل

مأزق الليبرالية المتوحشة

25 سبتمبر 2014

هل يجوز نعت الليبرالية الجديدة، أو الليبرالية العولمية، أو الليبرالية المتوحشة "ديكتاتورية الأسواق" و"ديكتاتورية تقنيات الإعلام الجماهيري"، بالتوتاليتاتورية؟دأبت الإيديولوجية السائدة في الغرب على نقد ووصف النظام الشيوعي الذي كان سائدا في روسيا ودول أوروبا الشرقية طيلة مرحلة الحرب الباردة بالنظام التوتاليتاري. وقد كان لمفهوم التوتاليتارية، الذي يعرف بالشمولية، دور كبير في إسقاط التجربة التاريخية للشيوعية. ومن أهم خصائص هذه التوتاليتارية، تميزها بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة: الحزب الشمولي الواحد، الدور المركزي للإيديولوجية، إلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دولة السلطة على سلطة الدولة، تضخم أجهزة القمع والإرهاب وافتراسها المجتمع، نفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدأ الانصهارية. غير أنه مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، التي تزعزع أسس الحياة الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة شمالا وجنوبا، والتي تقوم على المرتكزات التالية: الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية، وإنكار دور الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي والتخفيف من شروره الاجتماعية (تحديدا في مجال التوزيع والعدالة الاجتماعية)، هيمنتها على المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي). وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد الدولة وإضعافها، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة، برزت في العالم الغربي إيديولوجيا نقدية هي الأكثر شيوعا اليوم، إيديولوجيا مضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، تصف الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المتوحشة، بإيديولوجيا كاملة لإدارة الأزمة في النظام الرأسمالي العالمي. فهناك اليوم في صفوف مناهضي العولمة، من يرى أن الليبرالية الجديدة تعبير عن توتاليتارية الأسواق، وعن توتاليتارية تقنيات الإعلام الجديدة، وأن الذي شجعها على اكتساحها في التطبيق مختلف مواقع الساحة العالمية، ضعف قوى اليسار، وهو الضعف الذي بلغ ذروته بانهيار دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي. ويترافق مع ازدهار الليبرالية الجديدة هذا، وحتى في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما، انحسار مهم لدور السلطات العامة بدءا بالبرلمان. وتخريب بيئي وتصاعد انعدام المساواة، وتسارع الفقر والبطالة، أي كل ما يمثل نقيض الدولة الحديثة والمواطنية. ونشهد أيضا فصلا جذريا بين تطور تقنيات الإعلام الجديدة من جهة، ومفهوم تقدم المجتمع من جهة أخرى. فالليبرالية الجديدة التي جاءت مع صعود رونالد ريغان إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومارغريت تاتشر في بريطانيا، في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كانت نتيجتها تعميق الفوارق الطبقية الحادة داخل البلدان الغربية عينها. فهناك اليوم 60 مليون فقير في الولايات المتحدة الأمريكية أغنى بلد في العالم. وكذلك يمكن إحصاء 50 مليون فقير داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، أول قوة تجارية في العالم. في الولايات المتحدة يملك 1% من السكان 39% من خيرات البلاد، وعلى الصعيد العالمي تفوق ثروة 358 شخصا من أصحاب المليارات من الدولارات الدخل السنوي لـ 45% من السكان الأكثر فقرا أي 2.6 مليار نسمة. من هنا دأبت الايديولوجيا اليسارية الجديدة المناهضة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، على نعت هذه الليبرالية الجديدة بالتوتاليتارية. لكي نشهد في عالم اليوم قلبا واضحا لمفهوم التوتاليتارية. ولكن قبل أن نغوص في تحليل سمات النظام الرأسمالي العالمي التوتاليتاري، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، علينا أن نميز بين الليبرالية الكلاسيكية الغربية وبين الليبرالية الجديدة المتوحشة التي يتبناها اليمين النيوليبرالي الأمريكي. التي تعبر عنها نازية بوش أفضل تعبير. ما هو جوهر الايديولوجيا الليبرالية؟ ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير وحتى الثورة الصناعية (1750 – 1850)، وهي تشكل منارة مضيئة وعظيمة في تاريخ تطور البشرية. فالليبرالية متناقضة جذريا مع الأيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة الماوراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة والمادة. وهي ضد الوحي والميتافيزياء حين أكدت على العقلانية والعلم. وهي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرية وهي ضد سحق الفرد وامتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد. فقد جاءت الليبرالية كانتصار باهر على النظام الإقطاعي الذي ساد في العصور الوسطى، وهو النظام الذي كان يستند على الاستبداد والعبودية وقهر حرية الفرد وحقوقه وشكل حينذاك بمؤسساته وقيمه وعلاقاته عائقا أمام تطور الرأسمالية في ظهورها. وهكذا فإن الأفكار الليبرالية هذه شكلت منظومة للإيديولوجية متكاملة لليبرالية، التي عبرت عن مرحلة تاريخية محددة، هي مرحلة الرأسمالية الوليدة والصاعدة، وعن اتساق متطلبات تقدم البشرية مع متطلبات صعود الطبقة البرجوازية. ولم يكن من الممكن انتشار الأفكار الليبرالية في مختلف دول القارة الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية لو لم تكن متفقة إلى أبعد الحدود مع حرية الفرد التي قادته إلى محاربة الاستبداد على الصعيد السياسي، وإلى العقلانية على الصعيد المعرفي، وإلى العلمانية، وتحرير المرأة، والديمقراطية التي تشكل التخطي الديالكتيكي لهذه الليبرالية. وقد ارتدت المبادئ الليبرالية هذه طابع فتوح دائمة للبشرية، رست في أساس المجتمعات الحديثة (حتى إذا تجاوزت الليبرالية). إلا أن حرية المشروع الاقتصادي التي بدت في ظل المجتمع التقليدي، بمنزلة مبدأ عقلاني، يحرر ولا يضطهد. ويطلق قوى الإنتاج، أصبحت فيما بعد تظاهرة لا عقلانية، وأداة للاستغلال ولمزيد من التفاوت الاجتماعي على حد قول ياسين الحافظ في كتابه عن التجربة التاريخية الفيتنامية.أما الليبرالية الجديدة، فقد جاءت بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في زمن العولمة، وقد كشفت عن عدد من الحقائق أهمها: 1-تتسم العولمة الرأسمالية المتوحشة الحالية باستقطاب الرساميل والتدفقات الاستثمارية، وبالتالي بتركيز الثروة والرأسمال في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة، خاصة في الولايات المتحدة.2-يزداد إفقار العالم الثالث وتهميشه وتتخذ عمليات نهبه السافرة والمقنعة طابعا همجيا.3- تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا رئيسيا في صياغة هياكل القوة الاقتصادية من خلال قوتها السياسية والعسكرية. ومنذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي الجديد في ظل القطبية الأحادية، حاولت أن تصيغ العالم على شاكلتها ومثالها. ونشر سلطتها في العالم الفوضوي الذي وصفه هوبس. والولايات المتحدة لا تثق بالقانون الدولي ولا بالمواثيق الدولية. وهي تنظر إلى تحقيق الأمن. كما الدفاع عن الليبرالية الجديدة. عبر حيازة القوة العسكرية واستخدامها. وهي تزداد ميلا إلى العمل العسكري في شكل أحادي الجانب. وترفض المبادرات أو القرارات التي تتخذ تحت راية مؤسسات دولية على غرار الأمم المتحدة مثلا. وتشك في القانون الدولي وتؤثر العمل خارج نطاقه حين ترى ذلك ضروريا – كما هو الحال في حربها المرتقبة على العراق- أو حتى مفيدا لمصالحها فحسب. ولقد ارتبط صعود الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا منذ الثمانينيات وحتى يومنا هذا بتولي اليمين المتطرف أو اليمين النيوليبرالي مقاليد السلطة. وهو اليمين الذي لا يعبأ مطلقا باعتبارات العدالة الاجتماعية وأهمية التوظيف الكامل في عصر العولمة. يقول اغناسيو رامونيه في كتابه " الجغرافية السياسية للفوضى " إن سادة العالم الجديد، ما عادوا يتمثلون برؤساء الدول ورؤساء الوزارات وزعماء الأحزاب السياسية وقادة التكتلات البرلمانية، بل بمديري الشركات المتعددة الجنسية ورؤساء مجالس الإدارة وأرباب الرأسمال المالي وكبار المضاربين في البورصات والأسواق المالية. وليست الدول هي التي تملي سياساتها على رجال الصناعة والمال، بل هؤلاء هم من يملون على السياسيين السياسة المطلوب تنفيذها.