01 نوفمبر 2025

تسجيل

افهم قانون السماء تنجح

25 يوليو 2019

في قصة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، الكثير والكثير مما يمكن أن يُقال أو يُكتب، منها مثلاً، وهو موضوع حديثنا اليوم، كيف أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - رتب وخطط وجهز للرحلة منذ فترة ليست بالقصيرة، وأخذ كل احتياطاته البشرية لتنفيذ مهمة الهجرة، التي ستكون بالغة الخطورة على حياته وحياة صاحبه، ولكن رغم كل تلك الدقة والاحتياطات اللازمة للخروج إلى المدينة دون التعرض لأذى قريش، استطاع المشركون الوصول إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر، والمسافة بينهم وبين الكفار يومئذ ربما أقدام قليلة، جعلت أبابكر الصديق - رضي الله عنه – يهمس قائلاً: "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا". فجاءه جواب الواثق بالله والموقن أن الأمور كلها بيده سبحانه: "يا أبا بكر: ما ظنك باثنين، الله ثالثهما؟". ها هنا قد يتساءل أي أحد منا قائلاً: لم كل تلك الاحتياطات التي اتخذها الرسول الكريم وهو نبي مرسل، وكان بالإمكان أن يطلب من الله تعالى أن يحفظه وصاحبه طوال الرحلة، لا يتعرض لهما إنس ولا جان، ويصلا إلى مقصدهما في أمن وأمان؟ سؤال منطقي ووجيه جداً. الإجابة بكل وضوح واختصار وقبل الدخول في تفصيلات الموضوع وشروحاته، هي أن كل ذلك العمل واتخاذ الأسباب من جانب الرسول الإنسان - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لتعليم وتوجيه أمته من أن اتخاذ الأسباب اللازمة لتنفيذ أي عمل وتحقيق الهدف منه وانجازه بنجاح، لا يجب أن ينفصل عن قيمة عليا متمثلة في ضرورة الاستعانة بالله وطلب السداد والتوفيق منه سبحانه. إذ مهما يكن العمل البشري دقيقاً، فسيظل ينقصه دعم السماء، أو المشيئة الإلهية. لنتحدث عن الموضوع بشيء من التفصيل.. لنتأمل بعض الشيء في آية من آيات سورة يوسف، التي تتحدث عن مشهد النبي الكريم يوسف مع ساقي الملك حين طلب منه طلباً شخصياً (اذكرني عند ربك، فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين). فماذا يمكن أن نرى في المشهد؟ سنرى ها هنا بكل وضوح مسألة الاستعانة بغير الله. أو بمعنى آخر: ماذا يحدث حين نتعامل مع قوانين الأرض وننسى قوانين السماء؟ سيجد أي متدبر منا لهذه الآية، وضوح مفهوم الاستعانة بغير الله ونتائجها غير السارة. وقد تجسّد المفهوم في مشهد بالغ الوضوح صوّره القرآن العظيم لنبي الله الكريم يوسف - عليه السلام - وهو يعاني ما يعاني في السجن من ظلم الكائدين والظالمين. قد يبدو لنا ربما من خلال حديث النبي يوسف إلى ساقي الملك، الذي فسر له رؤياه، أن شعوراً داخلياً معيناً خفياً تولد عند نبي الله يوسف، مفاده إمكانية أن يكون خلاصه وتحرره من سجنه بيد ملك مصر في ذاك الزمان، فتطلع بسبب ذلك، الخروج من سجنه عبر الساقي حين يقوم بإبلاغ أمره للملك، فقد طال الأمد به وهو في السجن، شأنه شأن أي إنسان يتطلع الى أن يكون حراً بفطرته التي فطره الله عليها. أقول: ربما أدى به ذلكم الشعور إلى أن يوحي لساقي الملك أن يذكّر جلالته بقضيته وعقوبة السجن الذي دخله ظلماً وزوراً، وذلك في أول فرصة تتاح له للتحدث مع الملك. فوعده الساقي خيراً. لكن تطورت الأمور بعد ذلك. ربما في لحظات قليلات وتحت ضغط الحياة القاسية في السجن، والشعور المستمر بالقهر والظلم الذي وقع عليه، لاحت له - عليه السلام - فكرة الاستعانة بالساقي، لتذكير صاحب القرار الأعظم في البلاد وهو الملك، أن ينظر إلى قضيته، فلعل خلاصه ونجاته وخروجه إلى حياة الحرية من جديد، يكون على يديه!. فماذا حصل؟ ربما في غمرة شعور الساقي بالفرح والسعادة لخروجه من السجن، نسي كل ما كان يتعلق بالسجن ومن فيه وما يرتبط به، ومن ضمن ذلك ما دار بينه وبين النبي يوسف، حيث أوضح القرآن ذلك حين ذكر الله حال الساقي بعد الخروج من السجن، وانشغاله بحياته ودنياه (فأنساه الشيطان ذكر ربه). نعم، نسي الساقي صاحبه في السجن ومفسر رؤيته. واشتغل أو التهى بحياته وعمله بضع سنين. وأثناء تلك السنين يلبث ويستمر نبي الله الكريم يوسف الصديق بالسجن، يعاني ظلم وأفعال الظالمين.. حيث لم تنفعه فكرة (الاستعانة بالبشر) مهما كانوا وكادوا. وقد كان درساً بليغاً له – عليه السلام - ولمن يأتي من بعده من بني البشر. في السياق ذاته، نجد قصة أخرى شبيهة حدثت في عهد نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم – تجلى فيها المفهوم ذاته، ولنتذكر معاً ما حدث مع جيش المسلمين يوم حُنين من ارتباك وفوضى بداية المعركة، أدت إلى وقوع خسائر سريعة في صفوفه، وعدد الجيش يومذاك أكثر من عشرة آلاف شخص، في أكبر تجمع عسكري للمسلمين يومها أمام الأعداء، ورغم ذلك تفر غالبية الجيش من أرض المعركة، لولا رباطة جأش الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وعدد قليل من الصحابة، الذين استطاعوا لملمة الصفوف وإعادة تنظيم الجيش، مستعينين بالله ثم الاستفادة من العدد والعتاد في المعركة، حتى انقلبت الآية وتحقق النصر. لاحظ معي أنه حين داخلت وخالطت نفوس غالبية جيش المسلمين خواطر ومشاعر، من قبيل الاغترار بالكثرة والاعتماد على قوانين الأرض المادية ونسيان قوانين السماء ورب السماء - ولو لدقائق قليلة - مالت الكفة ساعتها لصالح المشركين، فصارت المسألة ساعتئذ أرضية مادية، لا دخل للسماء حينها. ولأن قوة المشركين كانت أكبر وأقوى، وعددهم يومذاك وصل لأكثر من ثلاثين ألفاً مقابل عشرة آلاف مسلم، ولأن القوانين الأرضية دقيقة لا تحابي أحداً، مسلماً كان أم غير مسلم، حدثت الصدمة ووقع حادث فرار الجيش المسلم كله في البداية، إلا من بضع رجال استأسدوا مع الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - في أرض المعركة. ولكن ما إن عاد المسلمون سريعاً إلى قوانين السماء، والاستعانة بالله في معركتهم، وعدم الاغترار بالكثرة المادية التي كانوا عليها، حتى تجسدت قوانين السماء على الأرض مرة أخرى، فانتصر المسلمون يومها كما وصف ذلك القرآن في قوله تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته). ◄ خلاصة الحديث مهما اتخذت الأسباب لتحقيق النجاحات على الأرض، ومهما كانت خططك وترتيباتك دقيقة محكمة، فإنها لا تغني أبداً عن اللجوء إلى الله والتوسل إليه لتحقيق مرادك، مع أهمية وضرورة اليقين التام بدعمه سبحانه وتوفيقه لك. إذ كلما ارتفعت الأبصار إلى السماء بيقين، من بعد عمل خالص صحيح، كلما اقترب الوعـد الإلهي بالنصر والتمكين والنجاح، والعكس صحيح دون أدنى شك.