11 سبتمبر 2025
تسجيلكثيرةٌ هي القرارات في حياتنا التي نتخذها، بعض منها يصيب والبعض الآخر يخيب، لكن هناك قرارات أفضل ما يُطلق عليها أنها "قرار أحمق" اتخذناه، الأدهى أن يكون هذا القرار الأحمق مرتبطا بدولة تجاه أخرى أو حاكم تجاه حاكم مماثل له، بل لعله في الصفات أفضل وعلى الحكمة أقدر وليس للعمر هنا دلالة، فكم من صغير السن فاق كهلاً بالعمر لنزاهته وطيب أصله ولحكمته التي يُضرب بها المثل، ولو نظرنا حولنا بمنظورٍ سياسي لرأينا ما قصدته بدايةً جلياً للعيان، فمنذ عام وأكثر بدأت بوادر شيطنة دولة قطر من دول الحصار، وإن أردتم معنى الشيطنه فلا هي خافية ولا معناها يصعب على فهم المتلقي، فهي تأتي من فعل الشيطان ومصدره شيطن، وترتبط بالشغب، ولعلها محاولة لصياغة صورة ذهنية سلبية لدى الرأي العام تجاه أشخاص وتيارات معينة عبر تصويرها على أنها شخصيات وتيارات هدامة تهدد الوحدة الوطنية وأمن البلاد، أو أنها خطر على الدولة والمجتمع الدولي عامةً وتعمل على تهديد القيم والوحدة الوطنيه وغيرها، وجميعكم يعلم بوسم دول الحصار لدولة قطر بالشيطنة وتتم “شيطنة الآخر” من خلال اتهامه بالشر أو الخيانة أو الفساد أو أنه أداة في يد الأجنبي أو التخابر مع العدو، وتستعمل فيها طرق التشويه والسخرية والتقزيم وتوظيف وسائل الإعلام المختلفة لإبراز الشيطنة بشكل ملموس وصياغة شتى التهم المؤكِدة على ذلك والملفقة قطعاً. ولو عدنا بالتاريخ للوراء كثيراً لوجدنا ما خفي أعظم من قراراتٍ حمقاء اتُخذت قسرا لشيطنة حاكم أو دولة. ألم يتم شيطنة صدام حسين الذي أُعدم قبل أكثر من عشر سنوات، وهو الذي كان يُشكل كابوساً لأمريكا وبريطانيا وكان كلا البلدين في حالة قلق شديد من العراق والأنشطة التي تقوم بها الحكومة العراقية آنذاك، وقد تم نشر الكثير من التقارير السياسيه حول الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، والذي انتهى إلى فشلٍ ذريع مسبباً انتشار الفوضى في المنطقة وتفاقم ظاهرة الإرهاب، وعليه طُرحت تساؤلاتٌ حول وضع المنطقة لو "لم يحدث هذا الغزو"، فالأكاذيب دوما ما يكون عمرها أطول بكثير من الوقائع في كثير من الأحيان، إلا أنها - تبقى أكاذيب - فالتدخل الأمريكي في العراق لم يكن يستند إلى غطاء أممي، حين ادعت إدارة الرئيس السابق جورج بوش أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل ويتعاون مع تنظيم القاعدة، ولكنها لم تتمكن أبدا من تقديم أدلة دامغة تثبت ذلك، وبعد الغزو رحل صدام ليبدأ حمّام الدم بين مختلف الطوائف ولم يتوقف العنف، وكل ذلك لقرارٍ أحمق استند على شيطنة صدام حسين وقتها. يريدون لدورة الحياة أن تدور للوراء مجدداً، بل يريدون العبث بأمن دولة بتلفيق التهم حولها، فهل تدور عقارب الساعة للوراء يوماً كما أرادوا، بالطبع لا.! والآن، نشهد الأمر ذاته مع اختلاف الزمان والمكان والأسماء، فدول الحصار تستند في شيطنة قطر إلى أنها تمول الإرهاب، وهو عارٍ عن الصحة، قاطعةً فجر الخامس من يونيو العام الفائت علاقاتها مع قطر، بل وفرضت عليها سلسلة من الإجراءات العقابية ثم قدمت لها قائمة مطالب وشروط من ثلاثة عشر بنداً لتنفيذها، مقابل عودة العلاقات إلى طبيعتها، غير أن الدوحة رفضت هذه المطالب واعتبرتها "تعدياً على السيادة الوطنية"، والامر برمته يندرج تحت شيطنة الدولة وتشويه سمعتها، فدول الحصار تنفق الأموال من أجل ذلك، وقد تابع الكثير من الناس الأمر معتقدين أن الأمر مفاجئ، لكنه ليس كذلك، فجميع المشاكل في العالم لا يقول فيها أحد لا أريد الحوار ودول الحصار ترفض الانضمام لطاولة الحوار؛ لأنهم يفتقدون النية ولعلمهم بكبر ما أقدموا عليه تجاه دولة مسلمة جارة، لم تمس كياناتهم الملكية بأمرٍ ما، ولعل التاريخ يحفظ أن هذه الأفعال الغير مسؤولة تجاه قطر لم تكن وليدة العام ألفين وسبعة عشر، إنما نوايا مبيتة ظهرت بالكثير في السنوات السابقة، فهل يعني هذا أن قطر على موعد مع غزو سعودي افتعله النظامان السعودي والإماراتي. هذا ولم يُفاجئنا التّقرير الإخباري الذي بثّته وكالة بلومبيرغ الأمريكيّة العالميّة التي كَشفت فيه أن المملكة العربية السعودية وحُلفاءها في التّحالف الرّباعي، كانوا يُخطّطون لهُجومٍ عسكريٍّ على دولة قطر لتغيير النّظام في الدّوحة، وهو ما أكده صراحةً الشيخ صباح الأحمد أمير دولة الكويت، أن الوساطة التي قام بها مَنعت حُدوث تدخّلٍ عَسكريٍّ في الأزمة الخليجيّة أثناء زيارته لواشنطن ولقائه بالرئيس ترامب، الأمر الذي عرّضه لانتقاداتٍ عديدةٍ من بعض وسائل إعلام التّحالف الرّباعي. إن ما قام به إعلام دول الحصار من محاولات لشيطنة قطر يندرج في إطار خطة محكمة طاش سهمها وكانت الخطة متكاملة العناصر سياسية وعسكرية ودبلوماسية وإعلامية، وحين تهاوت جميع العناصر كقطع الدومينو بقي سلاح الإعلام مسلطا على الدوحة، لعله يغطي وجع المسعى وخيبة النتيجة، فالإمارات التي تقف وراء قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية (قنا) وما تلاها من توجيه وسائل الإعلام السعودية والإماراتية والمصرية والبحرينية لقطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وحصارها برياً وبحرياً وجوياً، لم يكن كافياً لهذه الدول بوقف تلفيقاتها، إنما أرادت غزواً عسكرياً اُجهض واقعياً. إلا أن إعلام الحصار واصل تأجيج وتصعيد الأزمة ونفخه بأبواق مثقوبة لتسعير نار الخصومة، ولم يترك لنفسه مساحة للعودة إلى جادة الطريق، إذا انطوت فصول الأزمة بمصالحة يسعى قطاع واسع من المجتمع الدولي لإنجاز فصولها بعد أن تبينت له لا موضوعية الحصار وعبثيته وعدم جدواه. والآن لنطرح السؤال بقوة - كيف تبرر وسائل الإعلام التي أوغلت في الكذب والتلفيق وتزييف الحقائق بتبرير مواقفها أمام من يتابعها، وكيف تفسر له الوحل الذي يغطيها، بل كيف ستنظر إلى وجهها أمام مرآة المصداقية والحقيقة؟! «حصار قطر» الذي تعدى عامه الأول شطر الرأي العام العالمي الذي لم يتشبع بسردية الحملة التي استهدفت دمغ سمعة قطر بشيطنتها بتهم تأييد الإرهاب، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي الإنساني. لقد بقيت احتمالات التدخّل العَسكري في قطر تتزايد ولا تتراجع وربّما يُستخدم هذا التدخّل كطُعمٍ لجَر إيران، وربّما تركيا إلى حربٍ إقليميّةٍ بالطّريقة نفسها التي جَرى من خلالها جَر العراق إلى حربٍ مُماثلةٍ بعد غَزو الكويت، وبمُباركةٍ أمريكيّةٍ أيضًا، ولكن ربّما تكون النّتائج مُختلفة. الآن وبعد الحديث عن قرارات دول الحصار الغير مسؤولة وعن شيطنة قطر التي اعتبروها شماعةً لتعليق أسبابهم الواهية، بات علينا أن نعلم أن أهم الدروس المستفادة من هذا الحصار، ما وجه به حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، بضرورة التعامل مع الحصار على أنه واقع مستمر إلى أجل غير مسمى، وهو ما أعلن عنه سموه في خطابه الشهير، مؤكداً أنه لو رفع الحصار، فلن تكون المعاملة كما كانت في السابق، حيث سيتقلص الاعتماد على عنصرين أساسين، وهما: الجار والنفط ، بل وعلينا الإيمان كأفراد ننتمي لهذا البلد، أن جميع العوامل والظروف السياسية والاقتصادية تدفعنا للتغيير وإعادة رسم السياسات، حيث تمر قطر الآن بمرحلة تحول هيكلي تستدعي إعادة رسم السياسات في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية لتحقيق الأمن في كل جوانب الحياة، وصولا للغاية الكلية، وهي تحقيق الرفاه على كافة الأصعدة والمجالات التي تتحقق بثلاثة مرتكزات أساسية هي الاعتماد على الذات وتقليص الاعتماد على الجار إلى أدنى درجة ممكنة. بقي أن أقول أنه في مواجهة الإجراءات المفتعلة ضد الدولة، فقد أكدت مجدداً رفضها أي تدخلات في سياساتها وقدرتها على الصمود "إلى ما لا نهاية" في مواجهات الإجراءات الهادفة إلى تضييق الخناق عليها اقتصادياً وجغرافيا وسياسيا، بل واجتماعياً وامتصت الدوحة الصدمة الأولى وبدأت باتباع خطط اقتصادية مدروسة للحد من آثار الحصار تلخصت في البحث عن أسواق تجارية جديدة وبناء شراكات اقتصادية مع دول خليجية وإقليمية، لا سيما الكويت وعُمان، بل وبناء قاعدة أمنية تحمي سيادتها، ليأتي السؤال لدول الحصار، لماذا انزعاجها من أن تقوم قطر بحماية نفسها بعد ما ثبُت بالحجة والبراهين أنها مستهدفة من عقول تخطط ليلاً لغزوٍ عسكري لجارة وشقيقة - كانت بالأمس تأمن شرهم -. ولأن دول الحصار لا تملك إجابة وتخشى المواجهة التي ترتبط بصفات الأقوياء، أقول أخيراً، إن دولة قطر تثبت للعالم أجمع أن عقارب الساعة مع دول الحصار لن تعود للوراء ثانيةً، لا من باب "إعادة المياه لمجاريها"، ولا من باب "عفى الله عما سلف" ولا من أي بابٍ أُغلق سلفاً في وجه محاولات الشيطنة المبنية على قرارٍ أحمق.