17 سبتمبر 2025
تسجيلمع تفجر ثورات الربيع العربي، بدأ حديث «المؤامرة» يتردد على استحياء في أروقة أنظمة الاستبداد، وكانت الحجة المتكررة بين منظري هذه الأنظمة أن الثورات ما هي إلا ترجمة لمؤامرة الفوضى المراد إغراق بلدان العالم العربي فيها لتفكيكها وتدميرها. وكان السؤال الذي يثور بمناسبة هذا التنظير هو: ما الذي تمثله البلدان العربية من تحدٍ للغرب، لكي يلجأ إلى تفكيكها عبر نشر ثورات الربيع العربي بها، هل أنظمتها (الموالية له) تهدد أمنه أو مصالحه، أو أمن ومصالح ربيبته إسرائيل على نحو جدي؟ ولما كانت الإجابة عن هذه الأسئلة هي النفي، كان استمرار الحديث عن المخطط الخارجي للتفكيك يثير نوعا من الدهشة إزاء هذا المنطق المتمسك بفكرة تآمر العالم على منطقة تمتلك فعليا كل مقومات الضعف. وعلى العكس من هذا المنطق بدت الثورات كمحاولة تكاملية على المستوى الشعبي في إطار وطن ينخر فيه التفكك على المستوى الرسمي، وكمحاولة لتخليص المنطقة من مظاهر الاستقرار الزائف الذي كانت أنظمة الاستبداد تكبل به شعوبها، وصولا إلى استقرار جديد تكمن عوامل رسوخه في التكامل الطوعي للأفراد والشعوب. لهذا كان من المفترض أن ينظر إلى الثورات على أنها تمثل تحديا للغرب؛ فهي تفقده حلفاءه، وتهدد مصالحه، وفي هذا ما يفترض أن يدفعه إلى محاربتها ومحاولة وأدها، لا تشجيعها ورعايتها. ولكن خطاب المؤامرة كان يقلب كل هذه البداهات، ويصر على أن الثورات ما هي إلا مؤامرة. وقد نجح هذا الخطاب في أن يؤسس لثورات مضادة استعادت أوضاع ما قبل الربيع العربي في عدد من الدول، وأسست شرعيتها على أساس من مقولات محاربة الفوضى والتفكيك. ما لم يلتفت إليه مرددو مثل هذه الكليشيهات هو أن المنطقة لم تتمتع منذ استقلال دولها عن الاستعمار الغربي بأي تكامل حقيقي ولم تكن آمنة من التفكك في أي مرحلة من مراحل تاريخها الحديث، وإنما كان تماسكها مفروضا على نحو قسري من قبل الأنظمة القمعية التي تولت الحكم في أعقاب الاستقلال، والتي لم تستطع تجاوز العقبات والتحديات التي خلقها الاستعمار، بقدر ما مثلت بشكل أو بآخر مظهرا من مظاهر استمراره. ومن هنا فإن نسبة «الفوضى» إلى الثورات هي نسبة ملفقة، كما أن القول بأن الأزمات الحالية هي في مجملها صناعة خارجية يحمل تبرئة لا تستحقها أنظمة المنطقة، خاصة أنها منذ تسلمت الحكم وهي ترعى ميراث التقسيم الذي ورثته عن الاستعمار، وأسهمت من جانبها في بلورة عدد من المشاكل التي ربما لم تكن بهذه الحدة في زمن الاستعمار نفسه. وخروجا من المفارقات التي يحتويها خطاب سيناريوهات الفوضى، يعكف منظرو الاستبداد هذه الأيام على صياغة فزاعة جديدة تتمثل في التحذير من خطر الحركات الأصولية، وعلى رأسها الحركة المعروفة إعلاميا بداعش. فالمقاومة العراقية لنظام نور المالكي الطائفي تختزل على نحو متعمد من قبل هؤلاء المنظرين بالحديث عن «داعش»، وذلك للتهويل من المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الثورات، من «تسليم البلاد إلى قوى التطرف والإرهاب». والرسالة المسكوت عنها هي أنه «لولا أنظمة القمع الحالية لاجتاحت القوى الظلامية البلاد ونشرت العنف والإرهاب كما تفعل الآن في العراق». وتأتي مثل هذه الإستراتيجية الجديدة في إطار حقيقة أن أنظمة الاستبداد لا تملك ما تعد الناس به، ولكنها تملك ما تثير به مخاوفهم، ولا أنسب من داعش الآن لكي تحقق مثل هذا التخويف، ففيها تجتمع كل عناوين المرحلة، «الفوضى، الإرهاب، الدولة الدينية». ونظرا لغموضها يمكن تحميلها بأي عدد آخر من العناوين السلبية المناسبة.والتخويف من داعش يرتبط لدى هؤلاء المنظرين بالخوف على نظام «سايكس بيكو»، والذي يمثل لأنظمة الاستبداد قدس أقداس لا يجوز الاقتراب منه، رغم أنه مجرد تخطيط استعماري لا يزيد عمره على المائة عام. ولكن منظري أنظمة الاستبداد يخوفون الناس من الخروج من جنة «سايكس بيكو»، فيفقدون —بلا رجعة— خريطة المنطقة المقسمة بالحدود المصطنعة.إن حالة التوحد بين الأنظمة الاستبدادية وبين الرمز التفكيكي الشهير (سايكس بيكو)، تؤكد أن هذه الأنظمة هي نفسها أحد مظاهر حالة التفكيك التي تعيشها المنطقة، فهي تنظر إلى نفسها على أنها جزء من خريطة التقسيم، وأن أي تهديد لهذه الخريطة يمثل تهديدا مباشرا لها. وفي هذا ما يتناقض مع دعاويها الخاصة بمكافحة الفوضى. ما يمكن أن نخلص إليه أن أنظمة الاستبداد تقاوم الثورات وتنفق ببذخ من أجل إفشالها، ليس لأنها ضد مشاريع التقسيم أو الفوضى، ولكن لأن هذه الثورات تحمل الأمل الوحيد في خلق أساس جديد للشرعية يكون الشعب هو مصدره الأساسي، كما أنها تحمل أملا في تغيير معادلات السلطة التي لم تتغير كثيرا منذ الاستقلال، وهذا ما تفهمه أنظمة الاستبداد جيدا وتقاتل من أجل عدم تحققه واقعا على الأرض.