12 سبتمبر 2025

تسجيل

صحة الرئيس بين الحق في المعرفة وأمن الدولة

25 مايو 2013

اختلط في الأسابيع القليلة الماضية الإعلام بالإشاعة والدعاية والتلاعب وإثارة البلبلة وتصفية الحسابات في قضية صحة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. فغيابه عن الأنظار والنشاط الرئاسي لفترة زمنية فتح الشهية أمام المتربصين بمثل هذه الظروف لمختلف التأويلات والقراءات والتكهنات والإشاعات الفضفاضة والشائعات الكاذبة وإشاعة البلبلة. فمنهم من ذهب بعيدا للخروج عن آداب وأخلاقيات الممارسة الإعلامية للدخول في التلاعب والتخمين والقراءات المسبقة عن ظروف صحة الرئيس ومصير الأمة أثناء غيابه ومن سيحكم؟ إلى أخر ذلك من القراءات والتأويلات فالرئيس الجزائري الذي دخل مستشفى فال دو غراس في فرنسا قبل أسابيع أثار فضول العام والخاص وفتح شهية وسائل الإعلام للتفنن في التخمين والتأويلات العديدة والإشاعات والتحليلات والتفسيرات التي قد يخرج بعضها عن الكياسة والإتيكيت والعمل الصحافي المهني المسؤول. إشكالية صحة الرئيس تثير عدة تساؤلات من أهمها: هل يحق للشعب التعرف على الحالة الصحية لرئيس الدولة وأن يتعرف على تفاصيل المرض وسبل العلاج ونسبة نجاح العلاج والتعافي...الخ؟ أين هي المصالح الإعلامية في ديوان الرئاسة لتوفير المعلومة وإخبار وسائل الإعلام والرأي العام بالموضوع وبذلك إنهاء كل عمليات التلاعب واستغلال انعدام المعلومة من قبل وسائل الإعلام لتضخيم الموضوع أو التأويلات والتخمينات المغرضة والخاطئة؟ ما هي نية وأهداف وغرض المؤسسات الإعلامية من التهافت على أخبار صحة الرئيس؟ هل الهدف هو الاستجابة لحق الشعب في المعرفة وتوفير المعلومة للجمهور كواجب لا جدال فيه؟ أم الهدف هو استغلال الظروف غير الطبيعية في ديوان الرئاسة وانعدام المعلومة لتحقيق السبق الصحافي وإبراز إمكانات الجريدة وقدراتها على التعامل مع الظروف وقراءتها رغم التعتيم الإعلامي من قبل المصالح الإعلامية في الرئاسة؟ وهل الهدف هو توظيف الحدث لخدمة المعارضة وجهات معينة ولخدمة أهداف سياسية محددة قد تتعارض مع المصلحة العامة وقد تخالف الممارسة الإعلامية المسؤولة. فإذا فرضنا أن للشعب الحق في معرفة الحالة الصحية للرئيس فلماذا التعتيم ولماذا سكوت إدارة الإعلام في الرئاسة وعدم توفير المعلومة للجمهور؟ فالقاعدة في علم الاتصال تقول إنه إذا انعدمت المعلومة انتشرت الإشاعة. وفي هذه الحالة فإن النظام الجزائري ما زال، مع الأسف الشديد، لم يتمكن من التحكم في مفاصل الاتصال السياسي وفي آليات العمل الإعلامي السياسي على مستوى السلطة وعلاقة الرئاسة بالمؤسسات الإعلامية وبتوفير المعلومة للجمهور. فغياب رئيس الدولة عن الظهور يمكن تأويله بطرق مختلفة وبقراءات عديدة، كما أنه يثير فضول العام والخاص في البلد. أما إذا كانت السلطات في الجزائر تؤمن بأن الشعب ليس له الحق في معرفة الظروف الصحية للرئيس ولماذا غاب الرئيس عن الظهور فالموضوع هنا يطرح إشكاليات أخرى: من أهمها أن هذا الموقف يتناقض جملة وتفصيلا مع واقع العولمة والمجتمع الرقمي ومجتمع المعرفة الذي يفرض نفسه في جميع أنحاء المعمورة. ففي عهد الإنترنت، تعتبر عملية حجب المعلومات والتعتيم والرقابة إجراء غير سليم وغير صحي ولا يتناغم مع معطيات العصر ومع الانفتاح الإعلامي والمعلوماتي الذي فرض نفسه في جميع أنحاء العالم. وبذلك فإن عملية التعتيم والتهرب من المسؤولية وعدم توفير المعلومة تضر بالنظام الجزائري أكثر مما تفيده. فالتعتيم والتكميم يعني إعطاء الفرصة للإشاعة وإثارة البلبلة والتلاعب وتقديم معلومات قد تكون غير صحيحة لخدمة أهداف ومصالح فئات ضيقة ومحدودة في المجتمع. فلماذا يا ترى ما زال النظام الجزائري يصر على ممارسات أصبحت من ذاكرة التاريخ وممارسات أصبحت لا تتناسب ومنطق الألفية الثالثة. فبالنسبة للجزائر كان الرئيس الجزائري السابق المرحوم هواري بومدين يحتضر لشهور عدة ولم يعرف الشعب الجزائري وحتى الساعة ما حدث للرئيس بالضبط وما نوعية المرض... إلخ. أما بالنسبة للجانب الآخر لإشكالية التعامل مع الحالة الصحية للرئيس إعلاميا والمتمثل في المؤسسات الإعلامية؛ فهل يحق لهذه المؤسسات أن تتعامل مع القضية بنشر الإشاعة والمعلومات غير المؤكدة والموثوقة والتأويلات، وفي بعض الأحيان أو في الكثير من الأحيان، التلاعب والتضخيم والتأويل ليس بهدف خدمة الحقيقة وخدمة الرأي العام والقيام بواجب الإبلاغ والإخبار بل من أجل خدمة مصالح جهة معينة أو حزب سياسي معين إلخ...فبعض المؤسسات الإعلامية لم تتعامل مع الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة بالمهنية والحرفية وروح المسؤولية والإتيكيت والأخلاق التي يجب أن تحكم التعامل مع مثل هذه القضايا. فبعض الصحف دخلت في طرح قضية ما بعد الخلافة ومناقشة القوى التي تتحكم في خيوط مرحلة ما بعد الرئيس ومن سيحكم؟ قراءات عديدة وتأويلات متنوعة في غالب الأحيان مبنية على أفكار مسبقة ومصالح ضيقة بعضها يصب في حسابات أحزاب المعارضة والبعض الأخر يصب في مصلحة قوى همها الوحيد هو الوصول إلى السلطة مهما كانت السبل والوسائل. ما هو الهدف من تغطية الحالة الصحية للرئيس؟ توفير المعلومة للجمهور والقيام بواجب الإبلاغ والإخبار، أم أن الهدف هو توظيف حالة التعتيم والسكوت وانعدام المعلومة للانتقام من الجهات المسؤولة عن الإعلام في الرئاسة وعدم تعاونها مع وسائل الإعلام؟ هل الهدف هو البحث عن السبق الصحافي والشهرة والإثارة على حساب المسؤولية والمهنية والحرفية. هل الهدف هو التلاعب والتمظهر بكشف سلبيات وعيوب السلطة التي ترفض التواصل مع شعبها بشفافية وديمقراطية وجرأة وصدق. فالمسؤولية الاجتماعية في العمل الإعلامي تفرض على الصحافي وعلى المؤسسة الإعلامية أن تتعامل مع موضوع كموضوع الحالة الصحية للرئيس بمسؤولية كبيرة جدا وفق أخلاقيات العمل الإعلامي ووفق المصلحة العامة ومن دون مساومة أو تلاعب وابتزاز واستغلال المهنة لتحقيق أهداف ومصالح ضيقة. فالحالة الصحية لرئيس أي دولة في العالم ليست بالبساطة التي يتصورها الكثيرون، فالرئيس ليس أي شخص في المجتمع وصحته تهم الأمن القومي والاستقرار الوطني وهو رمز السلطة لذلك فالتعامل مع موضوع صحة الرئيس إعلاميا يجب أن يكون مسؤولا ويتسم بالحرفية والمهنية والأخلاق وليس الإشاعة وإثارة البلبلة والتلاعب من أجل مصالح سياساوية ضيقة. فحتى الدول العريقة في الديمقراطية تعاملت وتتعامل بنوع من الاحتراز والتحفظ مع مرض رؤسائها وخير مثال على ذلك الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران. انتشار الشائعات في المجتمع وترويجها عبر وسائل الإعلام العصرية والحديثة كالصحف والمجلات والانترنيت والفضائيات والمحطات الإذاعية ظاهرة غير سليمة وغير صحية تعني تلوث ومرض الرسالة المقدسة للصحافة والهدف النبيل للبحث عن الحقيقة وكشفها للرأي العام. فبدلا من تنوير الرأي العام وإبلاغه وإخباره بالحقائق وتزويده بالمعلومات الصحيحة والصادقة أصبحت وسائل الإعلام تساهم في "تلويث" الرأي العام وتزويده بالشائعات والأكاذيب والخرافات. فتقاطع الشائعة مع الخبر الصحافي يعني وجود خلل في المعايير والقيم داخل المجتمع ومشكلة عويصة في المنظومة الإعلامية. فإلى متى تبقى وسائل الإعلام في بعض الدول العربية عرضة للتطفل والاستغلال والابتزاز والتلاعب؟ من جهة أخرى ليس من حق السلطات الجزائرية مصادرة صحيفة "جريدتي" وإحالة مديرها على العدالة بسبب تناولها موضوع صحة الرئيس بوتفليقة، فمصالح الاتصال في ديوان الرئاسة من واجبها إخبار الشعب الجزائري عن تطورات صحة الرئيس، فمن حق الشعب الجزائري الذي اختار الرئيس وصوّت عليه أن يتعرف على أوضاعه الصحية. ليعلم الجميع أن ممارسات التعتيم والرقابة والتسلط قد ولى عهدها وأن التاريخ أكد من خلال العديد من التجارب أنه لا جدوى من ورائها.