15 سبتمبر 2025
تسجيليخطو النظام السوري نحو الإصلاحات بحذر وبكثير من الحسابات، إنه يقدم عليها من أجل بقائه فحسب، لا لأنه راغب فيها أو مقتنع فعلاً بأنها تناسبه، وحتى بعد التظاهرات الأولى ظل متيقنا بأنه سيكون بمنأى عما مرت به مصر وتونس وسواهما، وفيما عزا يثنيه هذا إلى سياسته الخارجية القائمة على نهج "الممانعة" فإن الشعب يسانده فيها، أما الممانعة الداخلية فتلك قصة أخرى. لم يتخل هذا النظام، بعد مضي أكثر من شهرين على الاحتجاجات، عن تحصيل مفاده أن ما يجري في الداخل ما هو إلا فصل من "مؤامرة خارجية" – أخرى – ضده، ولو صحت هذه النظرية لوجب الحفاظ على حال الطوارئ، بل تشديدها، ولما وجد النظام ما يدعوه إلى استجابة المطالب، من الواضح أنه يميز بين الاحتجاجات الطبيعية وبين ما يمكن اعتباره تحريكا خارجيا. واقع الأمر أن العامل الخارجي، إذا وجد عموما لمصلحة النظام وليس ضده، فهناك خشية عربية، وأمريكية، وإسرائيلية، وأوروبية من احتمال سقوط النظام السوري الذي هو مثل سواه، أعدم إمكان ظهور بدائل وسطية – وطنية تلقى القبول، والبديل الوحيد المحتمل هو الإسلامي، أو بالأحرى "الإخواني"، باعتباره دائم الانتظام والانضباط، لكنه يعرف أنه لا ولن يحظى بقبول شعبي له في سدة الحكم، أي أن القوى الجديدة التي تقود الاحتجاجات تريد أن تراه في المشهد السياسي، بل تتوقع منه مساهمات إيجابية، لكن من دون أن تكون له القيادة، ولا داعي للغوص عميقا بحثا عن الأسباب، فالمجتمع السوري كغيره من المجتمعات التعددية لا يحبذ حكما لصيقا بالدين أو بعيداً عن العصر وروحه. لا شك أن ما يشغل المحتجون الآن هو تصفية الحمولات الثقيلة التي وضعها النظام على كاهل الشعب طوال ما يقرب من خمسة عقود، فهو نشأ وترعرع على ممارسات سلطوية وأمنية تنتمي إلى زمن آخر، ولم يفطن إلى تطوير نفسه، رغم أن التطورات كانت تدعوه إلى ذلك وتلح عليه، لكنه عندما يستعرض مسيرته فإنه يميل إلى تفنيدها "مؤامرة" ، وليس إنجازاً. وإذ مكنه مكوثه الطويل من بناء ثقافته الخاصة به فإنه حرص على إعطاء الواجهة لعصاه الأمنية الغليظة حتى نسي كما نسي أتباعه ماذا يمكن أن تعني "الحريات" أو "الكرامة"، ومحا من وعيه وذاكرته المواد الدستورية والقانونية التي تتحدث عن حقوق الإنسان مثلا. منذ الصرخة الأولى في الاحتجاجات وقد أطلقها أطفال درعا ثم الرد الأمني الفظ عليها، وقع النظام في حبائل منطقة نفسه، بل في الفخ الذي رأى أنظمة أخرى تقع فيه، تلك هي غطرسة القوة التي تستكثر على الناس أن يرفعوا أصواتهم هاتفين "حرية.. حرية" أو "الشعب السوري ما بينذل" اعتقد النظام أن شيئا لم يتغير، فالخوف كفيل بإخماد الاحتجاجات، لذا أطلق أجهزته ودفع بـ"الشبيحة" و"فرق الموت" للتقتيل والتنكيل والترهيب والاعتقال، اعتقد أيضا أن التعتيم الإعلامي ممكن، لكنه فوجئ وما كان له أن يفاجأ، بأنه خسر إمكان التخويف، وبأن معظم الحقائق يبث بالصوت والصورة، كان لابد إذن من تغيير طريقة التعاطي مع الحدث، فعقدت مصالحات مع عشائر درعا، ومع أنسابها في دوما، وعقدت تسويات مع الأكراد ومع أحد أجنحة الإسلاميين بتلبية بعض المطالب وإطلاق عدد من المعتقلين، ومع ذلك تبين أن المطلوب ليس زيادات رواتب وإيجاد فرص عمل فحسب، وإنما الذهاب أبعد في الرد على الطموحات التي نقلها الشعب إلى الشارع، وهي تتمتع بمشروعية طبيعية وما كان لنظام جدي أن يجهلها أو يتجاهلها. الآن، بعدما رفعت رسميا حال الطوارئ، يبقى أن ترفع من النفوس والعقول، وبالأخص من ممارسات الأمن غداة هذا القرار التاريخي شهدت سوريا اليوم الأكثر دموية، كان يفترض أن تمر "الجمعة العظيمة" سلمية، ولو على سبيل الاختبار، طالما أن النظام أعلن بلسان رئيسه أنه يقر التظاهر السلمي ويعتبره حقا دستوريا، الدماء الجديدة التي أرهقت أسهمت في توريط النظام أكثر فأكثر، المشكلة أن ما يحرك المتظاهرون ليس "مؤامرة"، وإنما تراكم احتقانات خمسة عقود من القمع والقهر، وكما في تونس ومصر واليمن وسواها، تبين أن الثقة مفقودة بين النظام والشعب، فلا القرارات المعلنة تكفي لردم الهوة، ولا هي بدت فاعلة في تغيير الأوضاع، ترفع حال الطوارئ وتستمر الاعتقالات ويعاد إرسال القتلة لمواجهة المتظاهرين، ورغم أنها لا توفر أي نوع من الضمانات باتت تلك التظاهرات كأنها الحماية الوحيدة المتوافرة للمتظاهرين، فأي عودة إلى الوراء ستعني في أي حال مزيدا من القتل البطيء وربما الذهاب إلى خمسين سنة أخرى من الضياع. أوضح السوريون بما لا يحتمل اللبس أن النظام إذا لم يسقط فإن عليه أن يتغير بعمق، شكلا ومضمونا، ولم يعد مقبولا أن يعتمد على الأساطير التي بني عليها فإذا بها تتكشف عن واقع مريض، وليست الطائفية أقل عيوبه غير المعترف بها، لذلك بات الوضع يستلزم خطة إصلاحية شاملة قبل أن يدخل النظام في أزمة حكم بلا أفق ولا نهاية، هذه الخطة لابد أن تستند إلى مراجعة دستورية تنهي احتكار الحزب الواحد الحياة السياسية، وتنهي عبث الأجهزة الأمنية بالقوانين وتجاوزها، وتعيد الاعتبار إلى القضاء، ففي ذلك رد على مطالب الحرية والكرامة والعدالة، أما التشبث باستخدام القوة فلا يؤدي إلا إلى تأجيل الانفجار، لا يمكن لأي نظام أن يبقى إذا لم تلتق مصالحه مع مصالح الشعب.