18 سبتمبر 2025
تسجيللا ريب أن منزلة العلماء عند الله تعالى والبشر منزلة عظيمة رفيعة ولعل النصوص في ذلك أكثر من أن تحصر كمثل قوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب)، "الزمر: 9"، وكقول الحسن البصري رحمه الله: الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء ومن هنا رأينا أهمية ركوب موسى عليه السلام البحر وذهابه إلى الخضر عليه السلام من أجل طلب العلم ولكن ثمة سؤالاً يتردد على الألسنة دوما ما المقصود بمصطلح العلم هذا ومن هم العلماء المستحقون لحمله والتشرف به، ولعلنا نجد الإجابة من خلال النظرة الإسلامية والإنسانية كذلك، فالعلم بناء على ذلك هو الفهم والمعرفة على وجه النفع والفائدة والذي يظهر على جوارح وأركان المتعلم سواء كان علما لصالح الدين أو لصالح الدنيا وهو يشمل بعد ذلك الأسرة والمجتمع العام فيغذي بكل مفيد يؤدي إلى النجاح في الحياة أما ما كان علما ظاهريا أو تجريبيا ولكنه لا يسعد فيها فهو الضرر بعينه وكما قال حافظ إبراهيم: والعلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق كم عالم مد العلوم حبائلا لوقيعة وقطيعة وفراق فالعلم والعلماء في الأمة أسباب للعمار أو للدمار وأمثلة للمحاسن أو للمساوئ ولذلك قسم علماء الإسلام ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء "1/59" أمر أهل العلم إلى صنفين علماء الآخرة وعلماء الدنيا أو علماء السوء فإذا ما ذكرنا الجانب الأول منهم فإننا نرى أنهم يتصفون بعلامات عديدة من أهمها أنهم يريدون وجه الله وحده بعلمهم ولا يطلبون الدنيا به بل يزهدون فيها ويصبرون على ما قد يعتريهم من الفقر والحاجة احتسابا بالله تعالى وخدمة للأمة بحفظ الأصول والفروع كما قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله "ص 6" والغزالي في الإحياء "1/62" والإمام مالك كما في كتاب صفحات من صبر العلماء "168". ومنها أنهم يكونون خير قدوة للناس لا تخالف أفعالهم أقوالهم لأن ذلك من كبائر الذنوب (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)،"الصف: 3"، وقد نقل الغزالي في الإحياء "2/340"، أن الله أوحى إلى عيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا استح مني. وروى مرفوعا وموقوفا عن أبي الدرداء كما في اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي "ص 47" (ويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرة واحدة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات)، وكذا ما ورد عن معاذ ابن جبل وابن عباس بنحوه كما في قوت القلوب "2/58" وإتحاف السادة المتقين "1/374"، إذا زل العالم زل بزلته العالم من الخلق أو احذروا زلته لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه جماعات وتبلغ زلته الآفاق وقد ورد عن عيسى عليه السلام أن مثل هؤلاء أشد الناس فتنة. ومنها أنهم يكونون بعداء عن السلاطين الظلمة فلا يدخلون عليهم البتة ويحترزون عن مخالطتهم، إذا المخالطة قد لا تخلو عن تكلف في طيب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أن الواجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدورهم لإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم فإذا سكت يكون مداهنا لهم، وإنما علماء الآخرة على طريق الاحتياط لا الدخول في مواقع الفتن وقد قال حذيفة رضي الله عنه: إياكم وطريق الفتن قالوا وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم فيصدقهم بالكذب ويقول فيهم ما ليس فيهم، ولذلك كان صلاح الأمراء بصلاح العلماء كما في الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عنه صلى الله عليه وسلم: "صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء. فعلماء الآخرة يرون أنهم لابد لهم من محاسبة الحاكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لأنهم هم القادة الحقيقيون للأمة وذلك بعد النصح والتذكير ففي الحديث الذي خرجه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضا وليلعنكم كما لعن بني إسرائيل" وعند الحاكم بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله) وكم عانى علماء السلف من محن في سبيل الإصلاح ومجاهدة الباطل ويعاني العلماء المعاصرون الكثير المرهق أمام جبروت الطغاة المفسدين وأولئك الذين وصفهم المولى في كتابه باستشعار الخوف منه لاستفادتهم من العلم الذي خصهم به (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، "فاطر: 28". (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله)، الأحزاب: 39، وبمثل هؤلاء يصلح الراعي وتصلح الرعية وتعم السعادة. أما عن علماء الدنيا الذين هم علماء السوء فهم الذين لا يزالون في لهث على الدنيا وطلب الجاه والمال ولو من غير وجه حلال وهم الذين لا تنفعهم علومهم في الآخرة بل يعذبون بسببها وقد ورد في الحديث أن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه. وقد ورد في الخبر لا يكون العالم عالما إلا إذا كان بعلمه عاملا وعلق بعضهم على ذلك بأنه إذا لم يكن بعلمه عاملا دعي وعاء علم! ثم إن من هؤلاء من يتعلم العلم للرياء والمفاخرة وما إلى ذلك وهو ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار، ومنهم الذين يثنون على السلطان الجائر ويدخلون في كبيرة المداهنة من أجل أنفسهم أو من أجله فيضحون بدينهم لكسب دنياهم ويعاشرون كل فاسق مظهرين الرضا بما هو فيه كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح "10/428" وقال ابن القيم في الروح "ص 23" والمداهنة من أخلاق المنافقين أي النفاق العملي لا القعدي في الحياة بإقرار السلطان على باطله وهو ما حذر منه ابن مسعود أن يكون باباً للتعامل مع أي إنسان كما ذكر الإمام أحمد في العلل "1/268": أن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقي الرجل له إليه حاجة فيقول: إنك لذلت تثني عليه بما ليس فيه وعسى ألا يحلى أي يحظى من حاجته بشيء فيرجع فيسخط الله عليه فيرجع وما معه من دينه شيء! وهكذا يظهر أن ما يفعله بعض المنتسبين للعلم من هذا القبيل يتسبب بعقوبة لهم في الدنيا وهي موت القلب كما قال مالك بن دينار ترحل عنهم بركات العلم ويبقى عليهم رسمه كما في البداية والنهاية لابن كثير "9/268"، ومنهم المفتون الذين يسهلون على الولاة الأحكام في الحلال والحرام وهم المسلمون الذين ينزلقون حتى الهاوية في ذلك فيجرون مجرى السفهاء ويجرون على الأمة الويلات ومنهم صنف آخر وصفهم عيسى بن مريم عليه السلام بقوله: مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك هذا الماء يخلص إلى الزرع! فلنحذر من علماء السوء فإن دورهم في الأمة دور النار في الهشيم أقول ذلك حيث الذي دفعني أن أنصح نفسي وإخواني من أهل العلم لما وجدته في وطني الغالي سوريا من نماذج مضيئة مشرقة تمثل أقوالا وأفعالا من عرجنا على بعض أوصافهم من علماء الآخرة حيث نصحوا الرئيس بشار والحكومة والشعب لله ولم يخافوا في الله لومة لائم رغم القبضة الأمنية الرهيبة والاعتقالات.. فكانوا خير خلف لخير سلف أطال الله في أعمارهم وزاد في حسن أعمالهم وذلك في مختلف المحافظات السورية رغم الأحداث الدامية وأحيي منهم أيضا مفتي درعا البطل الذي استقال من منصبه الحكومي احتجاجا على التعاطي الدموي الوحشي الرهيب فانحاز للقرآن لا للسلطان لكنني من جهة أخرى أدعو الله تعالى أن يلهم من ساروا في الدرب الآخر أن يصحوا من سكرتهم وينحازوا للشعب الذي هو أقوى من الحكومة وحقه أقوى من قوتها ويفقهوا قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)، الشورى: 42، وماذا يفيدهم الرئيس والظلمة في الدنيا ويوم القيامة؟ أنا أعرف أن منهم من كان أستاذا لنا نجله ونحترمه ونحبه ولكننا نقول: إن زلته في هذا الجانب والتقرب إلى السلطان سابقا ولاحقا تجعل الحق أحب إلى قلوبنا منه في هذا الخطأ وما كنا نتمنى أن ينضم إلى الصف الرسمي الذي أذيع عبر التلفزيون السوري بحضرة وزير الأوقاف الذي شن هجوما جارحا على الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة العلامة المجاهد الشيخ يوسف القرضاوي قواه الله وقال: هؤلاء لا صلة لهم بالعلم ولا بالإسلام عليه من الله ما يستحق ومن وافقه ويجري معه في كذبه، ثم أخذ ومن معه ممن يتصدر للفتوى وهو الذي لا يعرف كلمة لا أبدا إلا حاضر سيدي ويتهمون الاتحاد بالعمل لأجندة خارجية وبألسنة حداد تجردهم من أخلاق العلماء وللأسف الشديد، يا ويل من يتعاطف مع الظالم ضد المظلوم ومع الجلاد ضد الضحايا والشهداء الذين زينوا ربيع سوريا بدمائهم الزكية لقد تبين مما صرح به الأجانب وهيآتهم أنهم أشد احتراما لحق الشعب السوري ولكن ماذا نملك إذا نزعت الرحمة من القلوب؟! وسوف ينتصر الحق بإذن الله ويخسأ هؤلاء ما لم يتوبوا كما خسئ علماء النفاق في كل زمان ومكان. [email protected]