13 سبتمبر 2025

تسجيل

صفحات المواجهة المطوية

25 مارس 2015

بتصريح "الرئيس المصري" لصحيفة الوول ستريت بأن نظامه "حريص على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة فوق كل شيء آخر"، وأنه "لن يدير ظهره للولايات المتحدة إطلاقًا حتى لو أدارت الأخيرة ظهرها لنظامه"، وتصريحه بأن "نظامه لن يكون مؤذيا في علاقته الثنائية مع أمريكا"، وأنه "لن يتعامل بحماقة إطلاقًا مع أمريكا"، وتصريحه بأنه "لا يمكنه نهائيًا تقليل علاقاته مع الولايات المتحدة بسبب أنظمة الأسلحة"، بهذه التصريحات تكون العديد من صفحات المواجهة المفتعلة والأزمات الوهمية قد انطوت بين البلدين.الصفحة الأولى التي انطوت بعد التصريحات الأخيرة هي صفحة "المؤامرة الأمريكية الإخوانية". ففي وقت مبكر جدا بعد أحداث 3/7، اشتعل الإعلام الرسمي والفضائي بالحديث عن علاقة التحالف السرية بين الإدارة الأمريكية ونظام الدكتور محمد مرسي. هذه الدعوى اتهمت أمريكا بأنها الداعم الأكبر لنظام الإخوان المسلمين، وأن دعمها لهم تجاوز التأييد السياسي، ليأخذ شكل المساعدات المادية والتنسيق الاستخباراتي. وأن الانقلاب على نظام الدكتور مرسي كان بهذا المعنى هزيمة للمشروع الأمريكي، لأنه أطاح بحلفاء أمريكا وقضى على فرصة استمرارهم في الحكم. وقتها تراوحت الأدلة التي قدمها أنصار هذا الاتهام بين وجود صفقة بين الإخوان وبين الإدارة الأمريكية؛ يتنازل الإخوان بموجبها عن سيناء (لتهجير الفلسطينيين من إسرائيل إليها) في مقابل قيام الولايات المتحدة وإسرائيل بتمكين نظامهم، وبين وجود اختراق إخواني في أعلى مراتب الإدارة الأمريكية، وصل إلى حد اتهام الرئيس أوباما نفسه بأنه عضو فى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.الآن بات من المفهوم أنه لو كان لهذا الحلف أي أساس من الواقع لما قبل النظام المصري الحالي، والذي أطاح بالإخوان من الحكم، أن يقيم علاقة طبيعية مع أعدائه أو حلفاء أعدائه، ولكن تبين أن كل الحديث عن التحالف الأمريكي الإخواني كان ضجيجا بلا طحن، فالنظام الذي ادعى أنصاره أنه لن يحمل أى ود للإدارة الأمريكية ولن ينفتح في علاقته معها بأى درجة يصرح بكل وضوح أنه لن يعطيها ظهره حتى لو فعلت هي ذلك.الملف الثاني الذي انطوى بعد التصريحات الأخيرة هو الرواية المصرية لنظرية"حروب الجيل الرابع"، والتي افترض أصحابها انضواء الولايات المتحدة فى مؤامرة كبرى بهدف تفتيت المنطقة والقضاء على دولها وترك أنظمتها فريسة للتآكل الداخلي، وذلك لكي تستمر (أمريكا) في زعامتها للعالم من دون معوقات من جانب، ولكي تحمى ربيبتها إسرائيل من وجود أنظمة ممانعة بجوارها من جانب آخر. وأنها في سبيل تحقيق هذا الغرض استخدمت تقنيات خفية حينا وظاهرة حيناً آخر، مثل الحركات الثورية والجماعات الفوضوية (وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بطبيعة الحال!)، فضلاً عن الوسائل التكنولوجية والمعلوماتية والآليات النفسية مثل بث الشائعات، وإثارة الحساسيات العرقية، وتعبئة الشباب بأفكار سلبية ضد الدول ومؤسساتها، ونشر البلبلة والتشكيك في مشروعاتها القومية، وتوظيف الجماعات الدينية، فضلا عن استخدام الأساليب السياسية مثل المظاهرات والإضرابات.الآن تبدو الرواية الأمريكية هي الأقرب للتصديق، ففي مقابل الرواية المصرية ذات المنحى التآمري، تبنى الاستراتيجيون الأمريكيون رواية عكسية تنص على أن حروب الجيل الرابع هي نمط الحروب التي يتعين على الولايات المتحدة أن تواجهه في زمن القطبية الأحادية، على اعتبار أن قيام أى دولة بشن حرب على الولايات المتحدة حاليا يبدو أمرا مستبعداً، والأقرب إلى التخيل أن تنهض بهذه المهمة الجماعات المقاتلة من غير الدول، وبالفعل فإن النسخة الأمريكية من النظرية انطبقت بشكل كبير على المواجهات التي خاضتها الإدارات الأمريكية خلال العقدين الماضيين، وذلك في مواجهة تنظيمات مثل القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش، ويتهم الساسة الأمريكيون الأنظمة الفاشلة والمتعثرة في المنطقة بالمساعدة على ازدهار مثل تلك التنظيمات، وذلك ردا على الاتهامات التي تتهم الأمريكيين بأنهم المسؤولون عن تكوينها (وسوف نخصص مقالة منفردة لمناقشة تفاصيل هذه الرواية الأمريكية).وأخيرا فإن من الصفحات التي يتعين أن تطوى كذلك صفحة التعاون المصري الروسي، تلك الصفحة التي صاحبها صخب كثيف وصف التقارب بين البلدين في حينه بعبارات على غرار "الصفعة المصرية الموجهة للولايات المتحدة"، و"نهاية التبعية للولايات المتحدة"، و"القاهرة تضع حدا للقوى التي تسعى للتدخل فى شؤونها الداخلية" (والمقصود الولايات المتحدة بطبيعة الحال). وقتها انتقد المحللون الجادون هذا التقارب، على اعتبار أنه لم يكن وليد رؤية إستراتيجية للعلاقة بين البلدين، وإنما مجرد رد فعل كيدي اتخذه النظام المصري إزاء قرار إدارة أوباما إيقاف جزء من المساعدات العسكرية المقررة لمصر بموجب اتفاقية السلام، وهو ما يفسر السرعة التي اتخذ بها القرار، كما يفسر قيام النظام الذي كان وقتها في مرحلة انتقالية (لم تكن قد أجريت انتخابات الرئاسة) بإبرام اتفاقات طويلة الأجل، تكبل السياسة المصرية لأجيال قادمة. ولكن المهللين رفضوا هذه الانتقادات واعتبروا أن التقارب المصري الروسي حتى لو كان يفتقر إلى الرؤية إلا أنه يكفي أنه قد سبب إحراجا للولايات المتحدة. عودة الود بين القاهرة وواشنطن، وفق العبارات الحارة التي استهل بها هذا المقال، يبين أن خطوة التقارب المصري الروسي لم تكن لا صفعة ولا نهاية للتبعية، وأن النظام المصري لا يملك رفاهية الاستغناء عن تحالفه مع واشنطن طالما أنه يعمل داخل ترتيبات كامب ديفيد، التي تجعل خياراته فيما يتعلق بتحالفاته الدولية محدودة أو شبه منعدمة.طي الصفحات السابقة، والتي تشير إلى أزمات مفتعلة أراد بها أصحابها تدعيم شرعية النظام القائم من خلال إظهاره على أنه في مواجهة مع أكبر دولة فى العالم، وذلك من دون أن يكون لهذه الأزمات أى أساس حقيقي، وفي نفس الوقت من دون محاسبة المسؤولين عن شَغل الرأى العام بها، يشير إلى الطريقة التي يتم بها إلهاء المواطنين عن القضايا الهامة، عبر إغراقهم في حالة من الصخب الفارغ الذي أصبح سمة مميزة للوضع السياسي المصري في هذه المرحلة.