14 سبتمبر 2025

تسجيل

إضراب الأسير عن الطعام .. حكمه وتأصيله

25 فبراير 2016

في إطار قصة المعتقل لدى العدو الصهيوني "محمد القيق" الذي تجاوز إضرابه عن الطعام تسعين يوما حتى اليوم والذي يشارف على الهلاك، يتساءل البعض على سبيل الإشفاق أو الاستنكار: وهل يجوز له أن يمتنع عن الطعام الموصل حتما إلى الهلاك بين يدي عدو لا يأبه بموته؟ وتعميما للفائدة وتأصيلا للحكم وبعد التأمل والنظر في مقاصد الشريعة ومقايسات المصلحة والمفسدة.. وبالله التوفيق أقول:بالرجوع إلى السيرة فإن من الصحابة من امتنعوا عن الطعام تحقيقا لغاية مشروعة مثل الذي فعله أبو لبابة الأنصاري -رضي الله عنه- عندما ربط نفسه بالسارية في المسجد وامتنع عن الطعام والشراب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يتوب الله عليه وقد تحقق، وفكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة. وحدث مثل ذلك لبلال بن رباح ولمصعب بن عمر -رضي الله عنهما- اعتراضا على التعذيب الذي لقياه من الكفار. صحيح أن امتناع أبي لبابة عن الطعام لم يأت على سبيل الاعتراض أو الإحراج، ولكنه يدلل بقوة على جواز مطلق الامتناع عن الطعام إن كان السبب مشروعا.فإن قيل: حق الحياة حق أصيل في دين الله وفي عرف البشر، فإذا تعارض مع غايات جزئية هنا أو هناك فيقدم عليها ويكون محظورا أن يقتل المرء نفسه. فالجواب أن قتل النفس المحظور هو ما كان قتلا لذات القتل أو ليأس طرأ على ضعيف الإيمان فلجأ إليه، ومن المعلوم أن المجاهد الذي يغوص في نحر العدو ليقاتلهم لا يعد من قتل النفس رغم أن الغالب على ظنه أنه سيقتل، وذلك لأن معنى الجهاد والتضحية غالب على معنى القتل والفناء.وقد أجاز جمع ليس بالقليل من علماء زماننا ما تقوم به حماس من نكاية في العدو بتفجير النفس، وما ذلك إلا قتل للنفس في غاية مشروعة، ومثله ما يقوم به هذا المجاهد "القيق" باعتبار القتل ليس مقصودا لذاته، وأنه ينطوي على قصد كسر فروض وأحكام العدو وقصد استجاشة الأتباع واستثارة المؤيدين.رابعا: ثم إن التجارب تقول إن الإضراب عن الطعام قد آتى ثماره (عاجلا وكثيرا)، وفي الذهن صور بعينها من ذلك في فلسطين وفي سواها.وأرى أن إباحة الإضراب عن الطعام أو قتل النفس جهادا وتضحية، ليس حكما عاما سائغا لكل إضراب عن الطعام وكل تضحية، إلا إذا غلب على الظن أنه يحقق الغاية، وإذن فلا بد من وضع محددات لجوازه، أرى أبرزها أربعة محددات:الأول: أن تكون نية الجهاد والتضحية غالبة على نية الفناء، بمعنى تقرير نية الجهاد وتخليصها من نوايا الشهرة والحزبية والعادة... إلخ، كما هي النية في كل عمل يراد به وجه الله تعالى، وفي النقل: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...".الثاني: أن يغلب على ظن من يقوم بذلك أنه يهزم به عدوه ويسقط أحكامه. هنا أنوه بأن إضراب جمع من الأسرى أجدى من إضراب الواحد والاثنين، وأن لموت بعض الأشخاص أثرا ليس لغيرهم مثله، فيجوز للأول ولا يجوز للآخر.الثالث: أن هذه التضحية قد تكون مجدية في ظرف دون ظرف آخر، كأن يخشى العدو ردة فعل تنقل الصراع نقلة كبيرة، فيكون حرصه أن لا يحدث الموت فتكون هزيمته من هذا القبيل.الرابع: أن لا يكون القرار والتقدير فرديا قدر المستطاع، لأن الواحد أقرب للخطأ من جمع أهل الرأي والتقدير، أقصد أن يكون قرار الجهة لا الفرد الواحد.آخر القول: على ما سبق، فإن ما يقوم به هذا الأسير الفلسطيني من إضراب عن الطعام هو فعل مشروع ومحمود، ويصنف في مراتب الجهاد العليا حتى لو أفضى إلى الهلاك، وهو إذ يحرم نفسه من لذائذ الطعام والشراب، فما نحسبه يفعله إلا لما استقر في وجدانه من عداوة للمحتل الغاشم، وإلا لقناعة بضرورة كسر وتفكيك هيبة أحكام القضاء الصهيوني، ومن أجل تصدير رسالة قوة وإصرار تجعل العدو حسابا دقيقا وجديا لعزيمة المجاهدين، هذا والله أعلم.