13 سبتمبر 2025

تسجيل

إعادة اختراع الدولة

25 فبراير 2015

ناقشنا في المقالات السابقة وجهة النظر التي تطالب الإسلاميين بإعادة الاستثمار في المجتمع لحين التوصل إلى صيغة معينة لشكل الدولة التي يرومونها. وفي الحقيقة فإن مشكلة الإسلاميين مع الدولة الحديثة تتعدى مجرد صياغة تصور للدولة إلى ضرورة التفكير في إعادة اختراع مفهوم الدولة نفسه، فالدولة القومية في التطبيق العربي لا يمكن الحصول منها على أكثر مما أتاحته بالفعل، وهو ما كان سببا في تعثر معظم تجارب الربيع العربي، خصوصا في الحالات التي كان الإسلام السياسي فيها في الحكم أو قريبا منه.وفي هذا الصدد فإن إعادة الاختراع تعني معالجة العيوب الهيكلية التي نتجت عن التعارض بين قيم الدولة الغربية وبين الوسط الثقافي والاجتماعي الذي غرست في إطاره في المشرق العربي. هذه العيوب الهيكلية لم يكن الإسلاميون ولن يكونوا قادرين على تجاوزها ما لم تتم دراستها وفهمها على نحو هاديء. ومن الدراسات القيمة في هذا الصدد، كتاب الدكتور نزيه الأيوبي: "تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط" والذي حلل الكثير من مظاهر العوار بالدولة العربية المعاصرة على نحو تجدر الاستفادة منه إذا ما أريد صياغة تصور جديد يتخلص من المشكلات التكوينية للدولة العربية والتي منها:أن الدولة في نسختها العربية لا تخضع لأي قواعد أو معايير يمكن تصنيفها على أساسها، فهي ليست دولاً جماعية، يعكس نظامها السياسي مصالح طبقة مسيطرة، وفي الوقت نفسه ليست دولة فردية وفق التعريف الليبرالي، وإنما هي خليط صاغته النخب العربية المتغربة على نحو انتقائي، تم في إطاره تقليد الغرب في شق السلطة ومخالفته في شق المسؤولية. بحيث أصبحت السلطة في الدولة العربية المعاصرة تعني احتكار القوة واستخدام العنف، ولكن دون التحمل بالمسؤوليات الموازية لهذه السلطة، و دون السعي لتبرير هذا الاحتكار بالحديث عن أي نوع من أنواع الشرعية، فالشرعية في إطار النموذج العربي هي مجرد وجه آخر للقوة ولا مكان فيها للرضاء الشعبي.وإذا كانت الدولة في التكوين الغربي تمتلك أساسا قانونيا يكسبها الشخصية الاعتبارية والوجود الشرعي، فإنها تملك — قبل هذا الأساس القانوني— تراثا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا صاحَب نشأتها وتطور بها إلى أن صارت دولا حقيقية. أما الدول في التطبيق العربي فقد اكتسبت — غالبا — وجودها القانوني قبل أن تشهد التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يؤهلها لتصير دولا معتبرة. بهذا المعنى "فإن كثيرا من الدول في المشرق العربي هي دول على الورق، نشأت بفعل صياغات قانونية ارتبطت بالانفصال عن المستعمر، ولكنها لم تنشأ كنتيجة لتطورات سياسية واجتماعية واقتصادية". و"الغريب أن هذا الأساس الشكلي تحول مع الوقت إلى عائق أمام تطور هذه الدول إلى دول حقيقية، فكثير من هذه الدول اكتفت بكونها دولاً ذات أساس قانوني من دون أن تسعى لتأكيد هذا الوجود من خلال اكتساب المقومات الضرورية للدولة القائمة على أسس اقتصادية واجتماعية وثقافية وإدارية صلبة".ورغم كونها دولا ذات مبرر قانوني فقط، تعاني معظم الدول العربية من مشكلات واضحة فيما يتعلق بتجسيد مفهوم "دولة القانون"، فعندما تم تطبيق هذا المفهوم في السياق العربي لم يتم الالتزام بمتضمناته الأساسية وهو المساواة بين المواطنين أمام القانون، "فالأفراد تتحدد أهميتهم على أساس من علاقاتهم بدوائر السلطة المختلفة، وليس على أساس من تساوى مراكزهم القانونية".تعاني أيضا الدولة في العالم العربي من الطبيعة غير المتوازنة، "فقد شهدت هذه الدول نموا في مجالات وقصورا في مجالات أخرى، وكان من أكبر المجالات التي شهدت نموا مفرطا البيروقراطيات، والتي شهدت تضخما أثناء فترات التواجد الاستعماري لخدمة أغراض الاستعمار، ولما كان جزء كبير من نشاط هذه البيروقراطيات معزولا عن المصالح الوطنية، فقد تمتعت هذه البيروقراطيات بالاستقلال النسبي حتى بعد خروج المستعمر من البلاد العربية. والغريب أن أبرز البيروقراطيات التي عكست هذه الخصائص هي البيروقراطيات العسكرية"، الأمر الذي منحها استقلالية، ثم نفوذا متزايدا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.غير أن معضلات دولة ما بعد الاستعمار في العالم العربي لا ترجع إلى حقيقة كونها مجرد دول قانونية غير مكتملة، أو دول متضخمة فأبرز مشكلات الدولة العربية المعاصرة تكمن في خروجها عن وظيفتها كوسيط وحكم بين القوى المكونة للمجتمع وتقلصها إلى مجموعة من النخب الحاكمة الراغبة في الدفاع عن مصالحها، التي توصف في هذه الحالة بمصالح الدولة. فالأصل أن الدولة جهاز مستقل عن المجتمع، وليس له مصلحة مختلفة أو مستقلة عن مصلحة الجماعات والأفراد الذين تتكون منهم، وأنها تلعب دور الوسيط أو بين هذه القوى حال تنازعها لتحقيق الصالح العام. ولكن بتقلص مفهوم الدولة إلى مجرد جماعة مصالح، ودخولها إلى حلبة التنافس السياسي والاقتصادي للدفاع عن مصالحها، وذلك في ضوء امتلاكها من القدرات ما يجعل المنافسة محسومة لصالحها منذ البداية، ثم استغلالها جهازها الإعلامي لإقناع الأفراد أنها تعكس مصلحتهم، عند هذا الحد، والذي وصلت إليه معظم الدول العربية للأسف، تخرج الدولة عن أي تعريف عقلاني، وتصبح بالفعل بحاجة إلى إعادة الاختراع من جديد. المرجع الأساسي: نزيه الأيوبي: تضخيم الدولة العربية، المنظمة العربية للترجمة