20 سبتمبر 2025
تسجيلحركة نشطة دؤوبة في الإمارات بحثاً عن تاريخ، أي تاريخ. لا يهم نوع هذا التاريخ إذ يكفي أن يكون قديماً، وكلما كان موغلاً في القدم فهذا أفضل، واستثماره أجدى وأنفع، أو هكذا صار لسان حال الإمارات خلال الشهور القليلة الماضية. الإمارات ليست هي المدن الحالية، دبي وأبوظبي وغيرهما، بل كانت أرض حضارات قديمة.. الأنباط قدموا إلى الإمارات قبل حوالي أربعة آلاف عام من منطقة شرق الأردن عندما كانت هذه المنطقة خالية تماماً من السكان، وهم أصل سكانها. هكذا قال حاكم الشارقة في دراسته وبحثه في موضوع القبائل. أما حاكم دبي فقد قال:" لسنا أمة طارئة على التاريخ ".. استناداً إلى تاريخ طويل قديم بعد أن أكّدت الأبحاث والدراسات حسب مصدر إماراتي أن تاريخ الحياة البشرية في الإمارات يمتد إلى ما يقرب من 7000 سنة، بحسب ما أكّدت التنقيبات الأثرية التي بدأت في الدولة منذ حقبة الخمسينيات.. وهكذا تتناثر الأخبار عن تاريخ الإمارات، ويتم الترويج لها بشكل واضح وملحوظ، كما لو أن هناك أمراً ما يتم الاشتغال عليه عبر استخدام التاريخ.. بداية لا أريد أن أقلل من قيمة ما يحدث في الإمارات والتنقيب عن التاريخ، فلا بأس من الاهتمام بهذا الجانب والتنقيب عن الآثار ودراستها من أجل فهم أكبر لما كان عليه السابقون الأولون من أي عصر أو حقبة كانوا.. لكن أن يتم استخدام التاريخ للتغني به والتمسح به وجلب المجد والفخر من أعماقه لغرض سياسي مثلاً، فهذا لم ولن يكون أبداً المغزى أو الهدف من دراسة وتأمل التاريخ وأحداثه ورموزه. معلوم للكثيرين أن شبه الجزيرة العربية منذ القدم، منطقة مرور حضارات وليست مقراً أو مستقراً لها، سوى بعض حضارات ظهرت في اليمن القديمة البائدة.. فقد كانت الجزيرة العربية منطقة مرور لا تغري أي مجموعة بشرية تخطط للبناء وقيام حضارة خاصة بها لتستقر، باعتبار طبيعتها الجغرافية القاسية التي لم تكن تؤهل حضارة ما للقيام، وإنما ظهرت المجموعات البشرية على شكل قبائل مرتحلة غير مستقرة، ومنتشرة في أرجاء المنطقة.. وما كانت للجزيرة العربية أهميتها إلا بعد ظهور الإسلام. مثلما أن المرء منا مطلوب منه في حياته أن يكون عصامياً لا عظامياً، يبني نفسه بنفسه، ولا يتكل على جهود غيره أو يتغنى بآبائه وأجداده وأعمالهم.. فإنه بالمثل مطلوب من الدول الأمر نفسه. لا يجب التغني بالماضي واستحضار التاريخ دون حاجة فعلية مدروسة تدعو إلى ذلك.. فما الفائدة في كل مناسبة أو أمر، الاستشهاد بأن دولة ما، صاحبة تاريخ عمره آلاف السنين، وهي في الفقر والفوضى تعيش؟ ما فائدة تلك الآلاف من السنين وإن كانت عامرة بالعلم والمعرفة وغيرها، وهي لم تؤثر في الواقع الحالي لتلك الدولة؟ ما الفائدة أن أستشهد برموز تاريخية عظيمة كانت تعيش على أرض تلك الدولة في حقبة زمنية معينة، وهذه الدولة لا تعرف ابتدائيات السير على خطى تلك الرموز ومحاولة صناعة آخرين مثلها من المعاصرين؟ الأسئلة في هذا الأمر كثيرة ومتنوعة.. نحن أمة العرب والمسلمين، لا تاريخ يشرفنا ويستحق دراسته والتغني به وشحن النفوس ببعض مفاخره، سوى التاريخ الذي يبدأ بظهور خير الأديان وخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم. إذ تكفينا القرون الأربعة عشرة الماضية، إن أردنا استحضار المجد والعظمة، فلا غير ذلك يشرفنا، لا تاريخ الفراعنة ولا الآشوريين ولا البابليين ولا اليونانيين، ولا غيرهم. ما الإضافة التي يمكن أن تعود علينا كدولة أو شعب حين نكتشف كوباً من الفخار هنا أو فأساً حديدية من العصر الفلاني هناك، سوى أنها كانت أدوات يستخدمها أناس عاشوا حياتهم ثم فنوا دون أثر على الآخرين، سواء كانوا مستقرين أم كانوا في رحلات مرور عبر أراضينا؟ لا إضافة لا أثر. لكن أنظر إلى الأثر البالغ لو اكتشفنا مثلاً رسالة من رسائل الرسول الكريم إلى ملوك وعظماء الأرض في زمانه، لتتأمل كيف استطاع في فترة وجيزة أن يخاطب أولئك العظماء ويكسب احترامهم، قبل أن يتحرك إليهم.. وتأمل لو اكتشفنا رسالة من رسائل أبرز الخلفاء الراشدين الفاروق عمر رضي الله عنه، يوجّه أحد ولاته على مصر أو غيرها، يأمره بالعدل وتقوى الله في سياسة الناس.. وتأمل لو اكتشفنا سيفاً من سيوف ابن الوليد، وكيف كان لمثل هذا السيف دوره في حماية الإسلام من عبث العابثين والمرتدين وبقية الوثنيين، ودوره في استقرار دولة الإسلام الأولى.. القصد مما سبق، أن التاريخ عميق ومليء بالرموز والأحداث وما يتعلق بها، وأن هذا التاريخ إنما للعظة والعبرة والتأمل والدراسة، وليس للتفاخر به، فإن لكل عصر رجاله وأحداثه، والحكمة تقتضي وقت التعامل مع التاريخ، في كيفية الاستفادة منه في بناء الأوطان والأفراد، وليست التفاخر بامتلاك بقايا ممتلكات ومستخدمات بشر، عاشوا حيناً من الدهر وقضوا.. نظرتنا للتاريخ كما يبينه الله سبحانه في قوله (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ)..