13 سبتمبر 2025
تسجيلشهدت تونس خلال الأسبوع الماضي احتجاجاً اجتماعياً لافتاً في محافظة القصرين (التي تبعد 260 كلم جنوب غرب العاصمة تونس)، على أثر وفاة أحد العاطلين عن العمل، ويدعى رضا اليحياوي (28 عاماً) بصعقة كهربائية بعد تسلقه عمودا قرب مقر الوالي في القصرين احتجاجاً على سحب اسمه من قائمة توظيف في القطاع العام، فاتسعت دائرة المواجهات إلى خارج تلك المحافظة لتشمل تقريبا مختلف المحافظات التونسية من الشمال الغربي إلى الجنوب..وأعادت احتجاجات الفئات الشبابية المهمشة والعاطلة عن العمل، وأعمال العنف التي رافقتها، إلى الأذهان بدايات الثورة التونسية في ديسمبر العام 2010، والتي احتفل التونسيون بذكراها قبل أسبوعين.وقد شكلت هذه الحادثة الشرارة الأولى للزلزال الاقتصادي والاجتماعي الذي ضرب هذه المحافظة التونسية النائية الواقعة في الجنوب الغربي على الحدود التونسية – الجزائرية، وقادت إلى تفجير انتفاضة شعبية ذات طابع اجتماعي عمّت المدن والبلدات التونسية في باقي المحافظات.. ولخصت صحيفة «الشروق» التونسية هذه الانتفاضة الشعبية بعبارة: «كأننا لم نغادر أواخر سنة 2010 وأوائل سنة 2011». وفي إشارة إلى محمد البوعزيزي، البائع المتجوّل الذي أضرم النار في نفسه قبل ما يزيد قليلاً على خمسة أعوام، ليصبح رمزاً للشباب الطامح إلى العدالة الاجتماعية، فكتبت تقول: «من البوعزيزي إلى اليحياوي، تكررت الدوافع والأساليب، فهل ستتكرر النتائج؟». لا أحد يستطيع أن يتكهّن بالآفاق التي ستبلغها التظاهرات الأخيرة، بالرغم من كونها حركة احتجاجية ذات طابع اجتماعي، لا يقودها أي حزب سياسي، ولا نقابة، ولا منظمة من منظمات المجتمع المدني الحديث، لكنها ترفع شعارات صحيحة: مقاومة الفساد والمحسوبية والإفلات من العقاب.ورغم الإجماع الوطني على أحقّية المطالب التي خرج من أجلها الشباب الغاضب إلى الشوارع، فإن اللافت للانتباه أن أحزاباً ومنظمات وطنية تونسية باتت تنظر بشك وريبة إلى حركة الاحتجاج، التي تحوّل الكثير منها إلى نهب وإجرام منظم، وسط مخاوف من تحرّك بعض الخلايا الإرهابية في غرب البلاد وجنوبها، ما دفع وزارة الداخلية إلى إعلان حظر التجوّل على امتداد الأراضي التونسية، ابتداءً من الساعة الثامنة مساءً وحتى الخامسة صباحاً، في محاولة لعزل العناصر المخرّبة، واستعادة السيطرة على الوضع الأمني المهدد بكل الاحتمالات السيئة.لا شك أن المطالب الاجتماعية العادلة التي حملها الشباب الغاضب والمهمش والعاطل عن العمل في حراكه الاجتماعي السلمي في البداية، والمتمثلة في الحق بالعمل، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والحوكمة الرشيدة، تم إجهاضها من خلال الأعمال الإجرامية التي تحدثنا عنها في البداية، الأمر الذي جعل كثيرين يتحدثون عن «مؤامرة ضد الثورة وضد إرادة الشعب»، لكن المشكلة الأكبر، في هذا السياق، أن كل طرف سياسي بات يحاول توظيف الحديث عن «المؤامرة» ضد خصومه السياسيين. فالإسلاميون «حركة النهضة» المشاركون في الحكم يتهمون اليسار بالعمل على إسقاط الحكومة، وتأجيج الفوضى والانفلات، في حين أن اليسار ممثلاً في «الجبهة الشعبية» ائتلاف من 11حزبا يساريا وقوميا يتهم الإسلاميين والمهربين بتخريب الثورة لوراثة حزب «نداء تونس» الفائز بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب.هذا الجدل السياسي بين اليمين الديني والليبرالي واليسار القومي، أصبح مألوفاً في المشهد السياسي التونسي، خلال السنوات الماضية، لكن ماهو مؤكد هو وجود اختراقات إجرامية لحركات الاحتجاج للشباب الغاضب والمهمش، ومحاولات لإنهاك المؤسستين الأمنية والعسكرية لخلق ثغرات أمنية، وذلك بغرض تأمين تحرّك الخلايا الإرهابية، ومجموعات مرتبطة بكبار المهربين الذين قاموا بتوزيع الأموال على عدد من الشباب المنحرف فى هذه المناطق المحرومة والفقيرة من أجل التصعيد والحرق والتخريب، ومهاجمة المقارّ الأمنية والحكومية.. فالمتابعون للشأن التونسي الداخلي يلمسون بوضوح أن ثمة وجود مؤامرة على الحراك الاحتجاجي، وتتمثل في أعمال إجرامية منظمة تستهدف مقارّ الأمن والديوانة (مصالح «القمارق» حيث توجد مضبوطات التهريب، و«قباضات المالية» إدارة الضرائب حيث توجد أموال وممتلكات واحتكارات التبغ، بالإضافة إلى أعمال نهب منظمة لمستودعات المضبوطات لدى الدولة والبلدية والبنوك والمؤسسات التجارية.وبالتوازي مع ذلك، شهد غرب تونس محاولة خلية إرهابية - محسوبة على تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب العربي» - نقل مؤونة ومعدات حربية ومتفجرات إلى جبل الشعانبي المحاذي لمدينة القصرين، فيما قال المتحدث الرسمي باسم الجيش التونسي بلحسن الطرابلسي إن دوريات عسكرية ضبطت مجموعة مهربين تونسيين وليبيين بصدد تبادل كمية كبيرة من البضائع في المنطقة الصحراوية العازلة بين تونس وليبيا، مشيراً إلى أن الدورية العسكرية تعرضت لإطلاق نار من المهربين مما جعلها ترد على مصادر النيران، فتمكنت من السيطرة على الوضع، وتوقيف عدد من الأشخاص، بينهم شخص يحمل وثائق ثبوتية سورية.قبل ثماني سنوات، وتحديداً في مطلع 2008، كانت محافظة قفصة التي تقع هي أيضاً في الجنوب التونسي، والتي اشتهرت تاريخياً بأعمال استخراج الفوسفات من أرضها وفق الطريقة النموذجية للأنماط الاستعمارية الفرنسية، قد شهدت كذلك ما بات يعرف بانتفاضة الحوض المنجمي، التي شارك فيها عمّال المناجم وعائلاتهم، والعمال والعاطلون من العمل وطلاّب المدارس. وكانت العناوين الرئيسة لهذه الانتفاضة الشعبية، تتمثل في الاحتجاج ضد مظاهر الفقر المدقع وارتفاع الأسعار، وانتشار ظاهرة البطالة، وضد الفساد المستشري في نظامٍ محلّي يقوم على التحالفات الزبائنية، والعصبيات القبلية والعائلية.وفي ظل الحراك الاجتماعي الأخير للشباب المهمش الذي عم تقريبا معظم البلاد التونسية، يصل القارئ الموضوعي لهاتين الانتفاضتين الشعبيتين، إلى نتيجة محددة وهي أن جذرهما واحد، وهو اقتصاديٌّ اجتماعي بامتياز ينبعث من هيمنة الشعور بالظلم، في ظل تفشي أزمة البطالة، لا سيما بطالة حاملي الشهادات الجامعية من الشبان، واستشراس منظومة الرشوة والمحسوبية التي عادت أقوى مما كانت عليه قبل الثورة، وأحيانا بنفس الأشخاص والأسماء، وأن دولة ما بعد الثورة عاجزة أو متواطئة مع مافيات الفساد،بسبب ما يسمونه من «غلبة الفساد وخيانة النخبة» على «مشاعر التغيير».فالاحتجاجات لم تندلع هذه المرة بسبب البطالة وانسداد الآفاق فقط، بل بسبب ما يسميه الشباب «التلاعب في قوائم تسميات انتداب عمال الحضائر»، أي اعتماد الرشوة والمسحوبية والعلاقات الخاصة لتثبيت المسجلين في قوائم «الحضائر» ليصبحوا موظفين حكوميين. و«الحضائر» هي صيغة تشغيل هشة في المؤسسات الحكومية بأقل من الأجر الشهري الأدنى المضمون بالقانون، وتعتمدها الدولة التونسية منذ نظام بن علي، كحل مؤقت لامتصاص غضب الشباب العاطل من العمل، وخصوصا من متخرّجي الجامعات، واتسع نطاقها بعد الثورة كثيرا، في ظل غياب كامل لمشروع تنموي في المناطق الفقيرة في غرب تونس.. وعلى هذا الأساس، كان الشباب يشاهد كيف يتفرغ الإعلام منذ نصف عام لتفاصيل عراك زعامات حزب «نداء تونس» بعد فوزه بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، وتفاصيل الفساد السياسي الذي يختلط بالفساد المالي، فيما وضعه يزداد سوءاً.لقد انفجرت ظاهرة «الفساد المنظم، والمحسوبية، وتحويل وجهة المساعدات الدولية للمناطق المحرومة والمهمشة في تونس إلى المسؤولين المحليين وحلفائهم من المتنفذين، بطريقة أسوأ مما كان يحدث في زمن بن علي»، في وجه كل الحكومات الثماني المتعاقبة بعد الثورة، ولكن أحداً لم يواجه هذا الفساد بطريقة جدّية، حيث توافقت كل هذه الحكومات الثماني على ترحيل المسألة الاجتماعية، بوصفها المعضلة الحقيقية للثورة التونسية، والتي في ضوء حلها يتم قياس مدى نجاح عملية الانتقال الديمقراطي في تونس. فالحكومات المتعاقبة منذ الثورة، لم تتجاوز مرحلة تصريف الأعمال، في ظل غياب «مشروع مارشال» وطني يليق بما بعد الثورة، ويؤسس لنموذج تنموي جديد، يحقق التنمية المستدامة، ويقوم على أساس محاربة الفساد والمحسوبية، وتحقيق العدالة الجبائية، وبالتالي العدالة الاجتماعية.