12 سبتمبر 2025
تسجيل(وقالوا يا أيها الذي أُنزل إليه الذكر إنك لمجنون)، (وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب)، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون)، (أم يقولون به جِنّة)، (قال الكافرون إن هذا لساحرٌ مبين)، (ثم تولوا عنه وقالوا معلّمٌ مجنون).معلمٌ مجنون، ساحر، كذاب، مسكونٌ بالجنّ.. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. كان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يطوي التاريخ هذا النوع من التصرفات ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات، خاصة أن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.مع هذا، لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ما تحمله من تحدٍ وهجوم. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعناً جوهرياً في شخص الرسول الكريم، ولا مَساً حقيقياً بكرامته وسمعته.لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس، خطَّ القرآن في موقفه من المسألة درساً في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده. وتَركَ المجال مفتوحاً لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها. ويمكن القول بأنه اعتبرها بِلُغة هذا العصر (رأياً آخر) يستحق أن يبقى وأن يَسمعه الناس في كل زمانٍ ومكان.بل تجاوز القرآن كل ما سبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل ما فيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئاً عن اللغة العربية، مسلماً كان أو غير مسلم.لم يحدث هذا عبثاً..لم تأتِ هذه المعالجة للموضوع خطأ أو سهواً!كان القرآن فيما نحسب يريد أن يضبط التصورات والمفاهيم في قضيةٍ حساسة وخطيرة تؤثر على الوجود البشري في هذه الأرض على الدوام. كان ولا يزال يهدف إلى تحرير الإنسان من تقديس الإنسان. حتى لو كان الأمر يتعلق بصاحب الرسالة الأخيرة، وبالرجل الذي تعتبرهُ الرسالةُ نفسها خيرَ بني البشر، الرجل الذي يؤكدُ القرآنُ أن الله وملائكته يُصلّون عليه.. وهي منزلةٌ ليس كمثلها منزلة في مقاييس الرسالة.كان القرآن ولا يزال يهدف عندما عالج الموضوع بتلك الطريقة إلى ضبط التوازنات في العلاقة بين الإنسان والفكرة، وإلى التأكيد بأن الهدف النهائي والأكبر يتمثل في ربط الناس بفكرةٍ ترمي لتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال في حياة البشرية على هذه الأرض.من هنا، لم يرَ القرآنُ أن مكمن الخطر على الفكرة يتمثل في تحدّي حاملها، ولا في الإساءة إلى شخصه، ولا في التهجم عليه، ولا في توجيه الاتهامات إليه، حتى ولو كان يرى في مثل تلك التصرفات درجةً من الافتراء.لكن البعض أصرّ ويصرُّ على أن يتعامل مع القضية بالمقلوب.قد ترضى قلةٌ من المسلمين القول بأنها تُقدّس شخص الرسول، لكن لسانَ الحال أبلغُ من لسان المقال، كما قالت العرب قديماً.. فالملايين من المسلمين التي تهجر الإسلام في تجلياته الإنسانية، وتتجاهلُ دلالاته الحضارية الكبرى، وتُعرض عن الالتزام بتعاليمه الأصيلة، وتتجاوز ما لا يُحصى من مقتضياته الحساسة، هي نفسها الملايين التي تُشهر أمضى سيوف الغضب المعنوي والمادي حين يتعرض شخصُ من أتى بالفكرة للهجوم والاتهام.. والتناقضُ في المسألة واضحٌ بحيث لا يحتاج لشرحٍ وتفصيل.لا يدعو هذا الكلام بطبيعة الحال لفتح أبواب الإساءة لرسول الإسلام، ولا لغيره من الرسل والأنبياء، ولا لمخلوقٍ على هذه الأرض. وربطُ الأمور بهذه الطريقة مدخلٌ للتسطيح والانتقائية لا يستحق النقاش. فالحقيقة أن قصة رسوم الكارتون الفرنسية، وقبلها الدانماركية، باتا نموذجاً مثالياً يُعبّر عن أزمةٍ إنسانية لا تختص بالإسلام ولا بالمسلمين، ولا بالعرب، ولا بشعبٍ من الشعوب أو بديانةٍ من الديانات.وتلك هي الأزمة التي كان القرآن يحرص على ألا تقع فيها البشرية. فحين يخرقُ البشر التوازنات المطلوبة في العلاقة بين الإنسان والفكرة، يُصبح من السهل حشرُهم في نفق التعصب والكراهية والعدوان. ويُصبح التافهون والهامشيون قادرين على جرّ مئات الملايين إلى الكوارث. لا فرق أن يتسبب هؤلاء في المأزق عن غباءٍ وجهل أو عن سوء نيةٍ وطويّة. فالنتيجة في النهاية واحدة. ربما كان الحفاظُ على تلك التوازنات مفتاح الحلّ لو أن أحداً امتلكَ قوة الصبر ونظرَ إلى الموضوع بالمنظار الذي تعاملَ به القرآن مع المسألة قبل أربعة عشر قرناً.. لكن الإنسان (المتحضّر) في عصر (الحداثة) لا يبدو جاهزاً لمثل تلك الممارسة.. يستوي في هذا الغاضبون في الطرفين.. من هنا، لم تعد تلك المسألة مهمةً بعد أن وضعَ كل طرفٍ نفسه في الزاوية، بحيث لم يعد ممكناً التراجع عن مواقفه (المبدئية).رغم هذا، يبقى مطلوباً أن يأتي ردُّ الفعل العربي والإسلامي على (الإساءات) من منظور إستراتيجي، يضع الحدث الراهن في إطارٍ من الفهم الأشمل للواقع العالمي. وهو ما يساعد بعد ذلك على التعامل معه بفعالية حقيقية. فالإنسان العربي والمسلم الذي يستصعبُ أداء الأدوار الحضارية التي تعيد إليه كرامته وكرامة ثقافته وحضارته يمكن أن يلجأ إلى (الاستسهال) لإشعار نفسه بالرضا والطمأنينة.. وإذا كان اللجوء للعنف أو المظاهرات الصاخبة الغاضبة هو في حقيقته الحل للمشكلة، فإن هذا يحتاج إلى وقفةٍ كبرى للمراجعة والتأمل.من السهل طبعاً استغلال العواطف والمشاعر الهيّاجة لإساءة فهم مثل هذا التحليل، بل والإساءة إلى أصحابه. لكن هذا لن يعدو كونه دليلاً إضافياً على عمق الأزمة التي تعيشها الثقافة العربية والإسلامية. وعلى طبيعة التناقضات العميقة والفوضى السائدة في تلك الثقافة.قد تُظهرُ مثل هذه الأحداث درجة الانتماء (الشعوري) الموجود في أعماق الإنسان العادي العربي والمسلم لهويته وثقافته وحضارته، وهو انتماءٌ يحمل كموناً إيجابياً هائلاً لو أمكن استثماره على الوجه الأمثل.لكن المؤكد أن ما جرى ويجري في فرنسا وغيرها سيقودنا إلى تحديات أخرى أكبر. وأن طريقة الاستجابة لتلك التحديات ستكون مفرق طريق في حاضر ومستقبل العرب والمسلمين في كل مكان.