30 أكتوبر 2025

تسجيل

أخرجوهم من قريتكم

24 ديسمبر 2020

لأن فطرتهم انتكست، بعد أن صاروا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ووصلت أذواقهم وفطرتهم إلى الحضيض، فتحولت العفة والطهارة والذوق السليم عندهم إلى نوع من الرجس – حسب رؤيتهم وأسلوب حياتهم – وبالتالي لابد من التخلص من ذلكم الرجس. هكذا كان حال قرية سدوم مع النبي لوط – عليه السلام – الذي كانوا يرونه حجر عثرة أمام استمرار أسلوب حياتهم بالطريقة المتدنية التي دفعتهم فطرتهم المنتكسة إلى انتهاجها، كانوا يرونه عقبة لابد من التخلص منها، حتى ارتفعت أصواتهم جهاراً نهاراً مطالبين بالتخلص منه وأهل بيته، والسبب (إنهم أناسٌ يتطهرون)، ربما استهزاءّ وسخرية منهم، لأنهم أبوا وامتنعوا السير معهم على ذلكم الطريق المعوج غير السليم، بل فوق ذلك الامتناع، كان ينهاهم عن تلك الفواحش والمنكرات التي سادت القرية كلها، فكانت دعوته ونصائحه – عليه السلام – بمثابة مبرر آخر يدفعهم لطرد لوط وأهله من القرية، إلى بقية القصة المعروفة لمن أراد الاستزادة منها في كتب التفسير. لم يختلف قوم لوط عن الأقوام السابقين، كانوا على نفس النهج والفهم وإن بصور وأساليب متنوعة، لكن النتيجة واحدة، ألم يتهم قوم نوح نبيهم الكريم بالضلالة (إنا لنراك في ضلال مبين) وبالمنطق نفسه اتهم قوم عاد نبيهم هود – عليه السلام – بالسفاهة والكذب (إنا لنراك في سفاهةٍ وإنا لَنظُنك من الكاذبين)، ليتكرر المشهد مع قوم فرعون وهم يحرضون الفرعون ضد نبي الله موسى – عليه السلام – ويتهمونه بالفساد في الأرض (أتذرُ موسى وقومَه ليُفسِدُوا في الأرضِ ويذَرَك وآلهتَك) حتى صار توافق بين مزاج الفرعون وقومه ضد موسى، فقال لهم منتشياً (.. ذروني أقتل موسى وليدعُ ربَّه إني أخاف أن يُبدل دينَكم أو أن يُظهرَ في الأرضِ الفساد). المشاهد نفسها تتكرر عبر التاريخ، وإن بأشكال وأناس مختلفين وثقافات مختلفة، العجيب أن المفاهيم واحدة، لا تتغير عبر الزمان والمكان، أبرزها تصوير الباطل نفسه على أنه الحق المبين، وتصوير المصلحين على أنهم المفسدون في الأرض وإن قالوا عنهم (أناسٌ يتطهرون)! وقد تساءلت إن كانت تلك الأقوام على درجة من قلة علم أو جهل عميق بحيث تصدر عنهم أقاويل وأفاعيل غير منطقية، أو أن سبب ذلك عدم فهم كاف للأشياء والحوادث حولهم؟، ووصلت لقناعة تامة أن كل مواقفهم تجاه الأنبياء والمصلحين من بعدهم، كانت عن علم وفهم وقصد ووضوح رؤية، ونتج إثر ذلك فعل العناد لديهم وتجذره في نفوسهم، والذي أدى بهم إلى التهلكة نهاية الأمر. المعركة الأزلية إنها معركة أزلية دون شك، ذلك أن كل قصص المصلحين مع المفسدين، إنما هي مشاهد من المعركة الأزلية بين الحق والباطل، منذ أن بدأت أول المشاهد بين آدم عليه السلام وإبليس في الجنة، إلى أن انتقلت بعد ذلك إلى الأرض، لتستمر إلى يوم الناس هذا. الباطل دوماً وأبداً يدرك تمام الإدراك أنه على غير هدى، وأن معركته مع الحق خاسرة في نهاية المطاف، لكنه يعتبرها معركة ذات فصول عديدة، وكلما استطاع أن يكثر ويطيل من أمد تلك الفصول، عاش فترة أطول وحافظ على مكاسبه لأمد أبعد، إنه يحاول بكل الطرق والأساليب، مستخدماً كل الأدوات الممكنة لأجل أن يحافظ على مكاسبه ونفوذه، وإن دفعته الأمور لتشويه الحق وتصويره بأقبح الصور، إنها هي معركة بقاء ومعركة كسب صلاحيات ومعركة توسيع نفوذ، ثلاث معارك في آن واحد مع الحق وأهله. أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون.. هكذا تبلغ الجرأة بعد حين من الوقت عند الباطل، ليعتبر المكان مكانه والقرية قريته والزمان زمانه، ومن يختلف معه في النهج والفكر والرؤية، يكون مصيره الطرد والنفي من قريته أو قمعه واعتقاله، وفي أوقات أخرى قتله. حين يرى أهل الباطل أهل الحق، وهم يتنزهون ويترفّعون عن أفعال وسلوك الباطل بكل أنواعه، فإنهم يعتبرون ذلك هو ذات التطهر الذي وصف قوم لوط نبيهم، الباطل يدرك أن ما عليه الحق وأهله، طهرٌ ونقاء وصواب، على عكس ما هم عليه، ولذلك تجدهما لا يبغيان ولا يمتزجان أبداً، ونتيجة لذلك التناقض، تجد مفهوم (أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون) يتكرر بصور مختلفة، وخاصة حين يعلو شأن الباطل ويكون القرار والقدرات والصلاحيات بيده. الإصلاح هو التطهر من يحاول إصلاح فساد مالي أو إداري أو سلوكي أو غير ذلك من صور الفساد في أي مجتمع أو أي بيئة، فإن الباطل سيواجهه من فوره بتهمة التطهر، الذي إن جئنا لتعريفه، سنجد التطهر هو كل مسلك لا يعجب الباطل وأهله، ولا يتوافق مع مزاجه ولا يسايره، فإذا لم يتوقف الأمر عند ذاك الحد، سينتقل الباطل إلى خطوة ثانية أخيرة حاسمة هي تفعيل عقوبة الإخراج من القرية أو المشهد العام بصورة وأخرى، نفياً كان أم اعتقالاً أم تصفية معنوية أو بدنية. الباطل حين تنتفخ أوداجه، يتوحش في تعامله ومعاركه مع الحق وأهله، لكن ذلك لا يجب أن يبعث على الإحباط واليأس، لأن الجميل في مشاهد معركة الحق مع الباطل، أن النتيجة في النهاية محسومة بوعد إلهي حازم حاسم (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، أي أن هذا الباطل ذاهب لا يستمر، وقد تكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق – كما جاء في تفسير السعدي للآية - وأنه عند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته. [email protected]