13 سبتمبر 2025
تسجيلتابعنا في المقالات السابقة كيف أن النظرية التي نشأت في أحضان مراكز الأبحاث الأمريكية لتفسير الصعوبات التي تواجهها القوات الأمريكية وحلفاؤها في التصدي لحركات المقاومة التي يصفونها بالإرهابية، تلقفتها أطراف عربية لتتهم من خلالها أمريكا نفسها بالوقوف وراء الفوضى التي عمت العالم العربي إبان ثورات ما كان يوصف بالربيع العربي، وذلك بزعم رغبة الأخيرة في تفكيك الدول العربية وإفشالها كمقدمة لإحكام سيطرتها عليها. لتصير للنظرية روايتان مختلفتان حول طبيعة التهديد الذي يمثله هذا النمط من الحروب وحول الطرف الذي يقف وراءها، وانتهينا إلى أنه رغم هذا الاختلاف فإن ثمة نقاط تتقاطع فيها الرواية العربية مع الرواية الأمريكية حول مفهوم حروب الجيل الرابع، نستعرضها فيما يلي.نقطة التقاطع الأولى تتمثل في انطلاق كلتا الروايتين من محاولة لتبرير الفشل وعدم إمكانية التنبؤ به أو التعامل معه. تفعل هذا الرواية الأمريكية لتبرير عجزها عن مواجهة والتصدي لأزمات كان يفترض بفعل فارق القوة أن تكون محسومة لصالح الطرف الأمريكي، مثل توقع ودرء أحداث 11 سبتمبر، ومثل القضاء على حركة طالبان وتنظيم القاعدة، ومثل عجزها عن تزويد حلفائها بالمعلومات والقدرات التي تمكنهم من مواجهة أطراف أضعف، مثل فشلها في حماية إسرائيل من ضربات المقاومة الفلسطينية رغم أساليبها البدائية. الأطراف العربية التي توظف النظرية تستخدمها تقريبا لنفس الأسباب، أي لتبرير فشلها في مواجهة ما تسميه الإرهاب. فالنظرية وفقا للرواية العربية تصور "العدو" على أنه ذو قدرات يصعب التغلب عليها، فهو يستخدم تقنيات الحرب الذكية والحرب النفسية وحرب العصابات، وأي نمط آخر من التقنيات غير النظامية، التي لا يمكن توقعها أو التعامل معها، وكيف لا؟ وهو عدو يعمل في إطار الجيل الرابع، متخطيا ثلاثة أجيال من الحروب التي صنعت معاناة البشرية على مدار التاريخ، وبفعل هذه القدرات الخارقة يصور العجز عن القضاء على هذا العدو ليس على أنه فشل، ولكن فقط تأخر في إحراز النصر. نقطة التقاطع الثانية تتمثل في تبرير استخدام العنف المبالغ فيه، ففي إطار حروب الجيل الرابع، وبفعل الطبيعة الشريرة والماكرة للعدو وأعوانه، لابد من الاستخدام المفرط للقوة، ولابد من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا (من بينهم أبرياء). فعلت هذا الإدارة الأمريكية وهي تواجه المقاومة العراقية والأفغانية عبر استخدامها للقوة غير المتكافئة، وفعلته أيضا الأنظمة العربية المعادية لثورات الربيع العربي، وهي تواجه القوى المعارضة. مقولة حروب الجيل الرابع أعطت مسوغا وشرعية لهذه الأطراف لكي تبالغ في استخدام العنف بكافة صورة (العقوبات المادية والقانونية والسياسية)، على اعتبار أن الطبيعة الخاصة للعدو في إطار حروب هذا الجيل تبرر مثل هذا العنف وتضفي عليه شرعية وقبولا لدى العامة، الذين ربما طالبوا بالمزيد منه، لحسم هذه الحرب التي تتهدد وجودهم وأوطانهم.البعد التآمري أيضا يبدو كامنا في كلا الروايتين، فالطرف الأمريكي يتحدث عن مؤامرة إسلامية بعرض العالم، لاستعادة أمجاد الخلافة، وهزيمة الغرب المسيحي، من خلال هدم شرعية الأنظمة السياسية الموجودة حالياً، وبناء شرعية جديدة قائمة على توحيد المسلمين في إطار كيان سياسي جديد. الرواية العربية تتبنى أيضا التفسير التآمري وتتفق مع الرواية الأولى في مقولاتها حول الخطر الإسلامي وخوفها من مشاريع الوحدة الإسلامية، ولكنها لا تتوجه بمخاوفها هذه للداخل، بقدر ما تتوجه بها للخارج (الذي يفترض أصحاب هذه النظرية أنه منبع هذه التهديدات!). فالداخل المسلم لا يناسبه في الغالب حديث التحذير من الخطر الإسلامي وحلم عودة الخلافة، ولكن يناسبه أكثر التحذير من خطر تفكك الدولة والقضاء على ريادتها وأهميتها.. إلخ. إذن الحديث عن المؤامرة موجود عند الطرفين، وبه ثمة تقاطعات ولكنه غير متطابق، فالطرف العربي يتهم الطرف الأمريكي بأنه ضالع في المؤامرة التي تتهدده، فيما الطرف الأمريكي يحمل الأنظمة السياسية للدول العربية قدرا كبيرا من المسؤولية عن ظهور الجماعات المتمردة التي تهدد مصالحه في المنطقة. ولكن مؤخرا بدأت لهجة الاتهام تخفت وربما تزول تماما، واستعادت الأطراف التقليدية مواقفها التقليدية، وحدث نوع من التلاقي في المصالح بين الأنظمة العربية المعارضة للربيع العربي والولايات المتحدة. فبعد فاصل من الاتهامات التي وجهتها الأولى للثانية بالتسبب في فوضى الشرق الأوسط، والرغبة في اقتطاع أجزاء من أقاليمه، وإرهاق دوله وتمزيقها، إذا بالعلاقات تتحسن وتنتظم لتصبح أفضل مما كانت عليه قبل نشوب ثورات الربيع العربي، فالمساعدات يتم استئنافها، والسفراء يرجعون إلى ممارسة أعمالهم الطبيعية، والوفود الرسمية تتحرك بسلاسة بين الدول العربية وأمريكا، وكأن شيئا لم يكن. يبقى القول إنه على الرغم مما تعانيه نظرية حروب الجيل الرابع من عيوب كثيرة، إلا أنها تلفت إلى نقاط مهمة أبرزها تصاعد درجة "الفوضى" في إطار ما يوصف بـ"النظام" العالمي الحالي، وتدق ناقوس تحذير بخصوص فشل الطرق التقليدية للتخطيط الإستراتيجي في التعامل مع أزمات الواقع الجديد. هذه النقاط تبدو غائبة عن معظم من يحذرون من هذه الحروب في عالمنا العربي ممن يتصورون إمكانية مواجهة ما ترصده النظرية من تعقد في ظاهرة الحرب بالحديث عن المؤامرة السرية التي يمكن كشفها وإحباط مساعي القائمين بها، في إطار تصور طفولي ساذج عن إمكانات الأنظمة السياسية العربية التي تستطيع أن تتصدى لحركة التاريخ وأن تحارب العالم المتآمر بها من كل صوب.