14 سبتمبر 2025

تسجيل

عن وحدتهم وتفرقنا

24 أكتوبر 2012

في الأسبوع الماضي فجرت لجنة جائزة نوبل في العاصمة النرويجية أوسلو مفاجأة بإعلانها فوز الاتحاد الأوروبي بجائزة نوبل للسلام لعام 2012 وذلك لما وصفته بمساهمته في تشجيع السلام والمصالحة في أوروبا. وأيا ما كانت الأبعاد السياسية التي تحكم معايير اللجنة المسؤولة عن منح هذه الجائزة، وأيا ما كانت الانتقادات إلى وجهت لاختيارها الاتحاد الأوروبي بالذات لمنحه هذه الجائزة في ضوء المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها بعض أعضائه، فإن الخبر في مجمله يدفع للتفكير في الكيفية التي نجحت من خلالها تجربة الاتحاد في تحويل أوروبا من ساحة للصراع إلى إحدى أكبر ساحات التفاهم في العالم، ومقارنة ذلك بأحوالنا في العالم العربي، حيث تتسع مساحات الاختلاف وتتآكل مساحات الاتفاق، حتى صرنا نجد من بين مثقفينا من بات يتعامل مع كلمة الوحدة على أنها كلمة سيئة السمعة. لقد نشأ الاتحاد الأوروبي كمحاولة للتغلب على ميراث دموي من النزاع بين الدول الأوروبية التي كانت قد خرجت لتوها من تجربة حرب مدمرة، أزهقت أرواح ما يزيد على الخمسين مليون نفس، وأدت إلى انهيار عملاتها وارتفاع أسعار السلع الأساسية فيها، وتحطيم بنيتها التحتية، وأوصلت مديونيتها لمعدلات قياسية، فضلاً عما خلفته من ملايين اللاجئين والمشردين والمصابين. نجح مشروع الوحدة تدريجيا في القضاء على هذا الميراث الهائل من المشاكل، وحوّل خصوم الأمس إلى شركاء في المصير، وطور وسائل التعاون بين الأنظمة التي أرهقتها الحرب حتى صارت لها عملتها الموحدة وكلمتها الدولية المسموعة، وصار الاتحاد الأوروبي مرشحا بقوة لوراثة الدور الأمريكي في عالم متعدد الأقطاب يعقب المشهد الحالي من القطبية الأمريكية المنفردة. وبالتزامن مع النجاح المطرد لتجربة الاتحاد الأوروبي، كان العالم العربي على الجانب الآخر من البحر، يقوم هو الآخر بتنفيذ عدد من تجارب الوحدة، ولكنها كانت قصيرة العمر وكثير منها مات في المهد. بعد قيام الثورات العربية كان من المتوقع أن يسهم الربيع العربي في جعل دوله أكثر رغبة واستعدادا لكي تستأنف مشروع الوحدة من جديد، ولكن النخب السياسية في هذه الدول لا تبدو قادرة على تحقيق التوافق الداخلي فيما بينها فضلاً عن أن تحقق الوحدة السياسية أو الاقتصادية فيما بين دولها. فبمجرد الإطاحة بالأنظمة القديمة تفرغت هذه النخب لحالة من التناحر حول عدد من الأزمات المفتعلة، وانصرفت عن البحث في مساحات التوافق فيما بينها. والسؤال الذي يناقشه هذا المقال هو: لماذا نجح الأوروبيون في تجاوز تناحرهم، فيما النخب السياسية عندنا لا يبدو أنها تسعى إلى تحقيق إنجاز توافقي مماثل؟ أول العوامل المسؤولة عن ذلك ربما يتمثل في تفاوت القدرة بين الأوروبيين وبيننا على التمييز بين الأهداف والوسائل. فالتناحر بالنسبة للأوروبيين لم يكن غاية في حد ذاته، ولكنه كان وسيلة لتحقيق أهداف أكبر، فلما فشل في تحقيق هذه الأهداف، وجدت هذه الدول أن بإمكانها أن تحقق بالاتحاد ما فشلت في تحقيقه عن طريق الحرب والانقسام. وعلى العكس مما سبق، فهمت النخب السياسية لدينا الانقسام على أنه غاية في حد ذاته، ولهذا ارتبطت مشاريع الوحدة الأولى (خلال مرحلة المد الناصري) بتشجيع وتمويل العديد من الانشقاقات والانقلابات بحجة تمكين الأنظمة ذات النزوع القومي من الوصول إلى الحكم، الأمر الذي أدى إلى نشوب حرب باردة عربية، لم تنته إلى أي نتيجة مثمرة. الأمر نفسه يتكرر فيما بعد الربيع العربي على المستوى الداخلي، فقد أصبحت النخب السياسية على حافة مواجهة شاملة، بدا معها أن هذه النخب السياسية ليست جادة في تحقيق شعاراتها الوحدوية والتوافقية، فهي متفرغة لترسيخ الفرقة ونقض ما غزلته الشعوب، تحركها مصالحها الضيقة، فيما هي عاجزة عن الالتزام بالحد الأدنى من التوافق الضروري لتحقيق أهداف الربيع العربي. من عوامل نجاح الوحدة الأوروبية أيضا أنها انطلقت من الجزئي إلى الكلي، ومن المحدود إلى الشامل، فمن اتحاد لإنتاج الفحم والفولاذ، إلى برلمان أوروبي، إلى محكمة عدل أوروبية إلى اتحاد نقدي إلى وحدة سياسية شبه مكتملة. وعلى العكس من ذلك جاءت تجارب الوحدة لدينا مبالغة في أهدافها، فوقية في تطبيقاتها، ومرتبطة بالطموحات السياسية لعدد من القادة القوميين أكثر من ارتباطها بالحقائق الموضوعية على الأرض، الأمر الذي حال بينها وبين إحراز نجاحات ملموسة. الأمر نفسه يتكرر في مرحلة ما بعد الربيع العربي، فالنخب السياسية المتصدرة للمشهد لا يبدو أنها تفهم فوائد التدرج في الطموحات، وإنما هي في حالة من الاستنفار الدائم من أجل تضخيم إنجازاتها والتهوين من إنجازات خصومها. من ناحية أخرى فإن المكون الحضاري في الاتحاد الأوروبي لم يتم طمسه أو القفز عليه، ولهذا فإن الاتحاد مازال يوصف من قبل الكثير من المختصين بأنه ناد مسيحي. أما الأبعاد الحضارية والدينية في مشاريع الوحدة العربية فقوبلت دوما إما بمعارضة أو بتحايل لتفريغها من مضمونها. ولم يتغير الحال بعد الثورات العربية، فالعامل الوحيد الذي تجتمع عليه النخب العلمانية، المتنافرة فيما سوى ذلك، هو معارضتها للهوية الإسلامية، وهو اجتماع ذو طبيعية مفرقة كما يبدو من مضمونه، خاصة أن الطرح البديل الذي يقدمه هؤلاء يتعارض مع المزاج العام لقطاعات واسعة من الشعوب العربية التي تستشعر ميلاً تلقائيا إلى الدين والتدين. لقد أثار نجاح ثورات الربيع العربي الأمل في اجتماع النخب السياسية العربية حول أهداف وحدوية على المستوى الداخلي والخارجي، ولكننا حتى هذه اللحظة لا نرى سوى استغراقا في الخلافات والاتهامات والفرقة، الأمر الذي يشعر المراقب بقدر كبير من القلق، خاصة عندما يقارن هذا الحال بحال جيراننا الشماليين الذين يحتفلون بمرور ستة عقود على بدء مسيرتهم نحو الوحدة التي تجاوزت مشاكل وعقبات أكبر بكثير مما تثيره النخب السياسية لدينا من قضايا وأزمات مفتعلة.