19 سبتمبر 2025
تسجيللعل معمر القذافي تخيّل لنفسه نهاية أكثر مشهدية، أكثر طقوسية، تناسب النرجسية المرضية التي امتلأ بها، لم يستطع أن يرى الصورة الأخيرة، برأسه المغمضة العينين ووجهه المدمي وجسده المراوح بين أيدي المقاتلين. تواعد مع الموت في مسقطه سرت، بين أبناء قبيلته، وأرغم المدينة وأهلها على خوض معركته الأخيرة، ليتأكد من تدميرها زنقة زنقة ودارا دارا، غير أن الثوار أخذوه إلى موعد آخر في مصراته التي أراد أن يزورها قبل ستة شهور فاتحا منتصرا لكن كتائبه أخفقت في هزمها رغم الاستشراس في قصفها. كانت نهاية طبيعية، بل منطقية، للطاغية الذي عقد العزم على سحق شعبه متجاهلا أنه ثار عليه، وان العالم كله مع استثناءات قليلة ساند إسقاطه والتخلص منه، نادرة هي المرات التي تستهل فيها نشرات الأخبار بهذه العبارة "ترحيب دولي" بمقتل أي أحد، كما حصل في حال القذافي، كانت الأخبار تنطوي على تلميح قوي بأنه التقط مصابا لكن حيا قبل أن يصفى، ولم يتأخر الجدل الحقوقي حول معاملته، لكن العواصم المرحبة لم تهتم لأن القلق من بقائه حراً طليقاً عنى لليبيين انجازا ناقصا وبداية مؤجلة للمرحلة الجديدة، كما عنى للأطراف الخارجية تمديدا لعمليات الأطلسي وهو ما كان دائما مصدر خلافات وحساسيات بين دول الحلف. كان مطلوبا من الثوار أن يعاملوا القذافي بـ"عدالة" لم يعرفها ولم يمارسها ولا احترمها، ولا هم عرفوها طوال اثنين وأربعين عاما اختطفها من حياتهم وحياة بلادهم، ورغم السقوط الأول لنظامه يوم اندلعت الثورة ضده لم يشأ أن يفهم أن أفضل ما يمكن أن يقدمه هو حسن الختام، ورغم السقوط الثاني يوم دخل الثوار طرابلس العاصمة لم يكن قد تهيأ للهزيمة، بل راهن على قتال مفتوح بين فئات شعبه وعلى شرخ يحدثه بين أهل وأهل، لذلك استحق السقوط الثالث والأخير لمنعه من جر ثورة الشعب إلى حرب أهلية. في نظرة إلى الخريطة الليبية يتضح أنه خطط طوال عهده لتكون سرت شمالا رأس خط الوسط الموصول ببني وليد والممتد جنوبا حتى سبها وما بعدها، أي بمثابة خط التقسيم الذي يتحكم بالبلاد شرقا وغربا وحتى بعد تشرذم قواته حاول أن يؤسس بؤرتي تدخل خارجيتين قريبتين من الحدود جنوبا وغربا، ليعمل على زعزعة العهد الجديد. غير أن كل هذه الأحلام انتهت معه بل ان أولاده الفاعلين في النظام انتهوا معه، ولا أمل لبقية "السلالة" في أن تعود يوما للمطالبة بـ"العرش"، ويبدو أن الشيء الوحيد الذي استطاع القذافي تحقيقه، من بين اشياء كثيرة وردت في خطبه وتصريحاته خلال الأزمة، هو عدم مغادرته ليبيا ووعده بأنه سيموت فيها لكنه سيدفن في مكان مجهول. نادرا ما يستطيع الطغاة ترتيب أضرحتهم قبل الرحيل. تطوي ليبيا صفحة عقيدها المهووس، كما كان متوقعا، أي بالدم، لتواجه وضعا يكاد يشبه بدايات ما بعد الاستقلال قبل ستين عاما، وخلال الشهور التسعة الماضية كانت المخاوف كبيرة من أن يؤدي تعنت الدكتاتور وصلفه وحقده إلى تفجير وحدة البلاد، إذ لم يتح لأبنائها خلال عهده الطويل أن يعيشوا الانصهار الوطني الذي تطلعوا إليه وعرفوا إرهاصاته في الحقبة الملكية القصيرة. فالقذافي اختبأ وراء شعاراته القومية والعروبية ليمارس سياسة "فرق تسد" بكل بشاعاتها، وذهب أحيانا في تطبيقاته السلطوية إلى تقليد الاستعمار نفسه بكل قسوته، بل انه مضى بعيدا جدا في نهج إلغاء الشعب حتى صدق فعلا ان شعبه دخل عميقا في استكانة القطيع كأنه لم يعد موجودا، ولذلك أطارت "ثورة 17 فبراير" صوابه وأفلتت العنان لأخطائه وجرائمه. لم يترك القذافي دولة يمكن تطويرها أو إصلاحها، بل دولة ينبغي تأسيسها من الصفر تقريبا، من هنا نرى أن جبالا من الصعوبات والتحديات انتصبت أمام الثوار، ولا خيار لديهم سوى مواجهتها بأقل ما يمكن من التباينات. لا شك أن المعارك الأخيرة التي دارت بعد تحرير طرابلس ستترك آثارا مؤلمة في النسيج الاجتماعي، ولذلك فإن مسار المرحلة الانتقالية ينبغي أن يترافق بأي إطار ممكن للوحدة الوطنية لإعادة تأسيس الثقة بين المكونات، ولعل ما يجعل هذه المهمة ممكنة فعلا أن الجميع يؤكد طموحه لدولة مدنية وديمقراطية يكون فيها الاحتكام للقانون وعلى قاعدة المساواة بين الجميع، ذاك ان الوحدة الوطنية تبقى مجرد شعار، أو وهم، ما لم تكن مصانة بالقانون. كان الجدل الذي دار حول تشكيل حكومة ائتلافية قد أشاع القلق داخل ليبيا وخارجها، فقد أبرز باكرا بوادر صراع سياسي، فضلا عن صراع على السلطة، الحكومة الحقيقية هي التي ستأتي لاحقا، أي تلك التي ستعكس نتائج أول انتخابات تشريعة بعد الثورة، وليس هناك ما يمكن اقتسامه الآن، صحيح أن هناك من يريد اثبات مساهمته في إسقاط النظام، لكن التنافس على الحصص وفقا لتلك المساهمات من شأنه أن يبدد فضل التضحيات التي يفترض انها قدمت من أجل الوطن الواحد أولاً وأخيراً. للثوار حق مشروع في الحرص على منع أي طرف من سرقة الثورة أو مصادرتها أو حتى امتطائها، فالوضع الجديد يطرح أسئلة ينبغي الرد عليها، من شكل النظام المقبل على متطلبات إعادة الإعمار والتنمية إلى موجبات الأمن وآليات العدالة الاجتماعية. وما دامت ليبيا هي البلد العربي الثالث الذي يتخلص من النظام الاستبدادي فمن شأنها أن تستوعب سريعا دروس المرحلة الانتقالية في تونس ومصر لتعمل على تقصير تلك المرحلة فيها وترشيد إدارتها. مع الترحيب بالخلاص من الطاغية وحتى تجاوز الطريقة التي أنجزت نهايته، انهالت النصائح والتمنيات على الليبيين الجدد، وأمكن رصد عناوين مثل: (الصفح، المصالحة، الوحدة، العدالة، التعافي والإعمار) اعتبرت الأمم المتحدة وعواصم عدة أن لحظة موت القذافي لابد أن تكون إيذانا بإحياء القيم التي طالما عمل على طمسها وتغييبها، فالفرصة متاحة لبناء نظام جديد يحترم التعددية، بمقدار ما أن عناصر إضاعة هذا الأمل موجودة أيضا، ليس لليبيين أن يأخذوا بأي نصيحة وإنما عليهم أن يسترشدوا بثورتهم نفسها، بمعاناتهم الطويلة، وبتضحياتهم الجسيمة، فمن شأنها أن تعينهم على تجاوز أي خلافات في سعيهم إلى الانتقال السلمي إلى مستقبل يعطي كلاً منهم فرصته ومكانة ومجالاً لتحقيق طموحاته، ثمة أسباب كثيرة للتفاؤل بأنه لن يأتي يوم يندم فيه أحد على "استقرار" مزيف كان الطاغية وأبناؤه وأعوانه يدعون أن النظام السابق استطاع اشاعته.