12 سبتمبر 2025
تسجيلقبل أيام اُختتمت في جزيرة مارغريتا بفنزويلا القمة الـ17 لحركة عدم الانحياز مكللة أشغالها بوثيقة تضمنت 198 صفحة. الحركة التي تضم 120 دولة أصبحت موضوع نقاش وجدال كبيرين حول أهميتها ودورها في العلاقات الدولية وفي مسرح الأحداث التي يشهدها العالم ويعاني منها الكثير من أعضاء الحركة، مثل ليبيا والعراق وسوريا واليمن ومصر، والقائمة قد تطول. لقد مرت 61 سنة على إنشاء المنظمة في باندونغ بإندونيسيا والظروف والأهداف التي تأسست فيها الحركة وجاءت من أجلها قد تغيرت بدرجة كبيرة جدا. فهل غيرت الحركة من إستراتيجيتها وطريقة عملها؟ وهل كيّفت نفسها مع ظروف جديدة من أهمها انهيار الشيوعية والكتلة الشرقية وظهور القطبية الأحادية ثم ظهور أقطاب جديدة على الساحة الدولية إلى جانب روسيا (الاتحاد السوفييتي) سابقا وأمريكا؟. فالحركة، التي تأسست في أوج الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، قامت أساسا على مبادئ تؤمن بعدم الانحياز أو المشاركة مع أي طرف عسكري في إطار الحرب الباردة، والمحافظة على استقلال الدول المحايدة مع التعاون الكامل لكلا المعسكرين الشرقي (الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو) والمعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف الناتو). كما تعمل الحركة جاهدة على مساندة الشعوب غير المستقلة من أجل تحريرها، ودعم الدول المستقلة في المشاركة في حلّ المشاكل والأزمات الدولية، ودعم منظمة الأمم المتحدة ومساعدتها في تنفيذ قراراتها لصالح هذه الدول. وفي هذا السياق سارعت الدول الحديثة الاستقلال إلى المطالبة بأسس جديدة للعلاقات الدولية للحدّ من الهيمنة الأجنبية بعد تحرّرها من الاستعمار، وإلى محاولة فرض وجودها على الساحة الدولية، وكمحاولة للتضامن فيما بينها بشكل مشروع على الصعيد الدولي لتحافظ على استمرارية وجودها، فعُقدت عدّة مؤتمرات قبل الحرب العالمية الأولى وخلال الحربين العالميتين وبعدهما، إلا أن دول عدم الانحياز لم تظهر إلى الوجود إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وأخذت عدّة مواقف سلبية وإيجابية حتى تثبت دورها كدول غير منحازة للدخول بأي حرب تحت أي ضغوط أو ظروف إقليمية أو دولية وحتى داخلية. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل استطاعت دول عدم الانحياز تغيير قرارات مجلس الأمن لصالحها؟ وهل استطاعت تفعيل قرارات منظمة الأمم المتحدة في حلّ النزاعات داخلها وفي بلدان العالم الثالث والبلدان الأفرو-آسيوية وبلدان الشرق الأوسط؟ في سنة 1955 تبنى مؤتمر باندونغ فكرة عدم الانحياز امتدادا للحركة الأفرو-آسيوية، إذ شارك في تأسيسه 29 دولة. ومن أشهر الزعماء الذين وضعوا أسس ومبادئ الحركة جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وأحمد سوكارنو وجوزيب بروز تيتو وكوامي نكروما وشو أون إن لاي، وأسفر هذا المؤتمر عن أهمّ 10 بنود عُرفت بـ "مبادئ باندونج العشرة"، والتي تحوّلت لأهداف محورية للحركة. تبنّت دول عدم الانحياز سياسة التوازن النووي بعد الحرب العالمية الثانية لتأكيد التعايش السلمي والحفاظ على السلام العالمي كأهمّ أهدافها، رغم تأثّر هذه الدول بسياسة الحرب الباردة، والتكتّل العالمي العسكري، والصراع بين المعسكريْن الرأسمالي والشيوعي، واحتمالات نشوء حرب عالمية ثالثة، فاتخذت دول عدم الانحياز مبدأ الحياد من المعسكريْن سياسةً إيجابيةً تحدّ من التوجّه نحو الحرب، وعدم الدخول بينها كطرف وسيط أو منحاز لأي معسكر، وذلك طلبًا لاستقرار الأمن وتحقيق غاياتها القومية، ومرت هذه السياسة بعدّة مراحل مبرزة تخوفها من عجز منظمة الأمم المتحدة في احتواء مشاكلها وسيطرة الدول الكبرى على قرارات مجلس الأمن، وتكتّل الدول المستقلّة بهدف الحياد عن المعسكرين، وتفاقم الصراع بين المعسكريْن وممارسة الضغوط عليهما من قِبل دول عدم الانحياز بهدف السلام والأمن الدولييْن. تأسست حركة عدم الانحياز في بيئة اتسمت بخصوصيات ومميزات محددة ونتيجة ظروف معينة في فترة معينة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما اليوم فإن هذا المفهوم لم يعد ممكنا تحقيقه أو تطبيقه بشكل كامل في بيئة دولية جديدة وفي ظروف وتحولات سياسية واقتصادية واتصالية يتميز بها القرن 21. والتي تفرض على جميع دول العالم الاختيار والانحياز إلى قضية أو إلى طرف على حساب طرف آخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فإذا لم يكن ذلك التحيز لحساب مصلحة طرف ما، فإنه على أقل تقدير تحيز لمصالح الدولة نفسها على حساب بقية أطراف الصراع في السياسة الدولية. في ظل العديد الصراعات والأزمات الدولية وفي ظل الحرب على الإرهاب ومختلف القضايا الدولية الشائكة والعالقة والمعقدة ستثبت صحة مقولة "نهاية عقود الحياد أو عدم الانحياز" على حساب "التحيز والانحياز"، والذي يفرض بدوره ضرورة الاستعداد لتقبل فكرة التحيز والمشاركة المباشرة أو غير المباشرة في الصراعات والتجاذبات الدولية العابرة للقارات. فالعالم اليوم يعيش نهاية عقود الحياد الدولي أو مفهوم عدم الانحياز، وهو من المفاهيم التي تصور إمكانية بقاء بعض الدول التي تحاول النأي بنفسها بعيدا عن دائرة الصراعات والتجاذبات الدولية، فعلى سبيل المثال: هل تمكنت دول عدم الانحياز من التملص أو عدم المشاركة في الحرب العالمية الكبرى على الإرهاب؟ هذه الحرب التي تدار وتوجه وفق رؤية وإستراتيجية أمريكية ووفق مصالح محددة، والتي أدخلت مختلف دول العالم بطريقة أو بأخرى في حرب لا نهاية لها ضد العديد من القوى الدولية والمنظمات التي أطلقت عليها أمريكا ووفق معاييرها الخاصة اسم المنظمات الإرهابية. وماذا يعني وجود قواعد عسكرية للقوى الدولية كروسيا والولايات المتحدة الأمريكية في العديد من دول عدم الانحياز؟ ماذا يعني انحياز بعض دول عدم الانحياز إلى التكتلات والتحالفات الدولية على حساب دول وتكتلات أخرى؟، وماذا نفهم من وقوف بعض دول حركة عدم الانحياز وتحيزها مع دول بعينها وقضايا معينة ووفق مرئيات متحيزة لفكرة أو اتجاه أو قضية من قضايا ثورات الربيع العربي في بعض دول الربيع العربي؟ من جهة أخرى يرى البعض أن استمرار انعقاد مؤتمرات دول عدم الانحياز على مختلف المستويات القيادية عامل إيجابي يمكّن هذه الدول من تنسيق العديد من مواقفها حتى على مستوى اللقاءات الجانبية التي تعقد على هامش المؤتمرات، وبالتالي فإن المطلوب هو استمرار مجموعة عدم الانحياز وعدم التوقف عن أنشطنها مهما كانت التغيرات على المستوى الدولي، مع الحرص على عقد اجتماعاتها باستمرار لأن العديد من دولها تملك من الإمكانات الاقتصادية تمكنها من التأثير في مجريات الأحداث الدولية الاقتصادية منها والسياسية، وبالتالي فإن قرارات أو توصيات مؤتمرات قمم دول عدم الانحياز تأخذ أهميتها لو قامت دولها بالالتزام بها أولًا والتعامل مع الدول الكبرى بموجبها ووفق مصالحها الوطنية.