13 سبتمبر 2025
تسجيليعرف الباحثون في حقل العلوم الاجتماعية معضلة شهيرة يطلق عليها اسم "معضلة السجين"؛ وتشير إلى تلك الحالة التي يكون قرار الفرد فيها متوقفا على قرار غيره مع عدم استطاعته التواصل معه أو الثقة فيه. ويستخدم لشرح هذه المعضلة المثال التالي:يلقي القبض على متهمين، وتكون الخيارات المتاحة أمام كل منهما أثناء التحقيق هي إما الوشاية بالآخر أو الصمت. وفي حال اختار المتهمان الصمت، لا تستطيع المحكمة إثبات التهمة على أي منهما، فيحكم على كل منهما بالسجن لمدة عام واحد. أما لو وشي أحد المتهمين على صاحبه فيما صمت الآخر، يفرج عن الواشي ويحكم على الآخر (الصامت) بالسجن عشر سنوات. أما إذا اختار المتهمان أن يشي كل منهما بالآخر، فيحكم على كل منهما بخمس سنوات. مع الأخذ في الاعتبار أن كلا المتهمين لا يعلم بقرار الآخر أثناء التحقيق معه.من الطبيعي أن تبدو إستراتيجية الصمت المتبادل هي أفضل بديل متاح، وذلك إذا نجح السجينان في التواصل وأقنع كل منهما الآخر بالتزام الصمت، ولكن المشكلة أن هذا التواصل مفقود، وحتى لو كان ثمة تواصل بطريقة ما فإن هناك مشكلة انعدام الثقة، فربما يتفق السجينان على الصمت، ثم يأتي أحدهما ويقول في نفسه: عظيم لقد أقنعت زميلي بالصمت، والآن يمكنني أن أشي به وأحصل على البراءة.وبسبب معضلة الشك المتبادل من جهة، وانعدام القدرة على التواصل من جهة أخرى، لا يصبح أمام السجينين إلا اللجوء إلى الخيار اللا أخلاقي المتمثل في الوشاية بالطرف الآخر، ويبدو هذا الخيار عقلانيا جدا في نظر الطرفين، ذلك أنه إذا قرر الطرف الأول الوشاية فهنا إما أن يصمت الطرف الثاني، فيحصل الواشي على البراءة، وإما أن يقرر الطرف الثاني الوشاية بزميله هو الآخر، فينجوا الطرف الأول بوشايته من حكم مشدد بعشر سنوات. صحيح أن الطرفين يحصلان وفق هذه الخطة على حكم بخمس سنوات، وهذه ليست أفضل نتيجة ممكنة، بل هي خسارة فعلية، إلا أن هذه الخسارة هي أفضل خيار عقلاني في ضوء حالة الشك المتبادل وغياب التواصل. وتلخص معضلة السجينين في قدر كبير من مضمونها حالة الشعوب العربية في مواجهة حكامها المستبدين، فأنظمة الاستبداد توظف بشكل غير مباشر معضلة السجينين أو هي تصنعها صناعة، وذلك عبر إذكاء حالة من انعدام الثقة وعرقلة مظاهر التواصل بين الجماهير، وخلق أجواء تشبه أجواء السجن العام، حيث يشعر كل فصيل أو طرف بالتوجس والقلق والخشية من بقية الأطراف. وذلك كيما يقبل الجميع بمنطق الخسارة الجزئية ظنا منهم أنها تعفيهم من الخسارة الكلية (حتى لا نصير مثل سوريا والعراق). التواصل المفقود وانعدام الثقة بين الناس هما الصولجان الحقيقي في يد كل مستبد، وهما أداته لجعل خيارات شعبه دوما في مصلحته، فالشعوب المفككة لا تقارن بين ما هو حسن وما هو أحسن، ولكنها تختار بين ما هو سيء وما هو أسوأ. هي فقط تحاول أن تقلل خسارتها، لا أن تعظم مكاسبها، ومن هنا فإنها ترضى بالقليل على اعتبار أنه أفضل المتاح. ففي إطار مهرجان الخسارة للجميع، يصبح الطرف الذي يجني أقل خسائر هو الفائز. لقد خلق الله (سبحانه) الناس مختلفين ليتعارفوا ويتواصلوا، ولكن أنظمة الاستبداد تستثمر اختلاف الناس لتضرب بعضهم ببعض وتخوف بعضهم من بعض وتذرع بذور الكراهية فيما بين بعضهم البعض، وذلك لكي تطيل أمد بقائها في الحكم لأطول فترة ممكنة عبر إقناع الناس بالقبول بالخسارة الجزئية خوفا من ضياع المجتمع ككل. المثير للتفاؤل أن العلماء قد توصلوا رياضيا أن معضلة السجينين يمكن تجاوزها من خلال الخبرة، فمن خلال الوقوع في نفس المأزق مرة بعد أخرى، يتعلم الفرقاء أن يثقوا في بعضهما البعض، فالاشتراك في الفشل ينتهي بالسجينين إلى قناعة مفادها أن التعاون أفضل من الوشاية. ومما يساعد على الوصول إلى هذا السلوك الرشيد أن كثافة التفاعل في حالة المجتمعات تكون أكبر منها فيما بين السجينين، ما يسمح باكتشاف فوائد التعاون على نحو أسرع. كما تساعد أدوات التقنية الحديثة في توسيع رقعة التواصل المجتمعي والتخلص من فردية التفكير والمصلحة والقرار. كما أن هناك دائما احتمال انبثاق الوعي الثوري من التفاعل الاجتماعي، هذا الوعي الثوري ربما لا يظهر بوضوح في لحظات القهر السياسي، ولكنه يظل دائما عنصرا كامنا، ومصدر قلق محتمل للمستبد، لذا يطلق عليه البعض وصف "معضلة المستبد"، والذي نناقشه في مقال لاحق إن شاء الله.