16 سبتمبر 2025
تسجيلقبل أن ينطلق بالأولاد إلى المدرسة نظر الزوج إلى زوجته الجميلة "قطر" نظرة حزن وشفقة، فقد أعياها المرض وأضاف إلى عمرها الحقيقي عدة سنين، حتى بدت وكأنها تخطت الأربعين، وهي لم تبلغ الثلاثين من عمرها حتى الآن. فهي عانت وتعاني من انسدادات مستمرة في بعض الأوردة والشرايين، أدت بها إلى إجراء عدة عمليات قسطرة حتى اليوم. كانت شعلة من النشاط قبل إصابتها بالمرض، كانت بالإضافة لقيامها بمهامها كَرَبَّة بيت من الطراز الأول، تشتري احتياجات الأسرة الصغيرة، وتشارك بنشاط في خدمة أحد مراكز التأهيل الاجتماعي، وتعطي دروس تقوية لطلاب المدرسة القريبة من المنزل. واليوم لا تستطيع أن تركز على إنجاز شيء واحد في اليوم. ودَّعت زوجها واحتضنت الأولاد وهي تلبس عباءتها، فموعدها اليوم مع طبيب استشاري زائر، قد يرى فيها ما قد يكون خفي على الأطباء الآخرين. فرغم أن المسافة للمستشفى لا تبعد أكثر من 3 كيلومترات (حوالي 10 دقائق بالسيارة) فإن "قطر" كانت حريصة على ألا يفوتها الموعد، فخرجت من المنزل قبل الموعد بـ 45 دقيقة. دخلت على الطبيب على استحياء، فقد كانت متأخرة عن موعدها بأكثر من نصف ساعة، بسبب زحمة المواصلات، ولصعوبة الحصول على موقف للسيارة، كما قالت. أغلق الطبيب ملفها بعد قراءته، وألقى عليها نظرة فاحصة، فعرف بعين الخبير، وعلى الرغم من مساحيق التجميل ومحاولتها التظاهر بأنها متماسكة، أن علتها أنهكتها. طلب منها الجلوس ليستمع إليها، وهو يجس نبض تدفق الدم في عروق يدها البارزة، كان كما توقع ضعيفاً يتدفق بوتيرة أقل من الطبيعي. قالت: إنها تعاني من أزمات يومية في الصباح والمساء، تسبب لها ضيقاً في الصدر مع ألم في الرأس، وأحيانا تحس بتنمل في الأطراف، وإنها على الرغم من زيارتها لعدد من الأطباء، ومداواتها بعمليات القسطرة، وبعدد من العقاقير، فإن أياً منهم لم يستطع علاجها بشكل كامل، وإن ما تحصل عليه الآن أشبه بمسكنات لا تجدي نفعاً، وإنما تهدئها لفترات قصيرة، لتعود العلة بعدها بأشد منها مع مرور الأيام والشهور. وضع الطبيب سماعته على قلبها، فتأكد له أن العلة قد تكون أكبر مما شخصه لها الأطباء في ملفها. قرر أن يجري لها فحصاً كاملاً، فيخضعها لجهاز رسم القلب، ليتعرف على مسببات ضعف تدفق الدم. أمضت جل ما تبقى من يومها بين المختبر وأقسام الأشعة المختلفة، لتنجز المطلوب منها. فموعدها القادم بعد يومين، وتحتاج إلى النتائج قبل أن ترى الطبيب مرة أخرى. خرجت من المستشفى وهي منهكةٌ ومرهقةٌ، إلى درجة أنها نسيت أين أوقفت سيارتها. اتصلت بزوجها ليسعفها، فجاءها بعد حوالي الساعة ليوصلها للمنزل. شكرت زوجها واعتذرت له عن إخراجه من العمل، واضطراره للعودة مرة أخرى إليه. طمأنها بأن صحتها أولى من كل شيء، وأنه لن يرجع للمكتب نظراً لعدم جدوى قضاء ساعة أو ساعتين في الطريق، ثم الوصول إلى العمل على نهاية الدوام. بعد يومين، كانت مع زوجها في عيادة الطبيب مرة أخرى.. جلست تستمع بإسهاب لما يقوله الطبيب، الذي بدأ بقوله: إنه يرغب أن يكون صريحاً معها في شرح علتها، والخيارات المتاحة لها للعلاج. العلة الأولى ـ كما قال ـ : أنها تعاني من التصلب العصيدي للشرايين أدى إلى عدة انسدادات في الأوردة الدموية، والثانية أن الأوردة الموصلة للقلب والخارجة منه تعاني من ترسبات دهنية، جعلت من الصعوبة للدم في الوصول للأجزاء الحيوية للجسم، بالمقدار الذي يحتاجه من الدم النقي، وهذا كان سبب صداع الرأس، وخاصة في الصباح، وإعياء شديداً في المساء، وتنمل الأطراف في بعض الأحيان. كما أن الغدد المسماة "بالوكالات" تنتج وتفرز صفائح دموية أكثر بكثير من قدرة استيعاب الشرايين والأوردة. وأن علاجها يكمن في إجراء عمليات قسطرة لعدد من الشرايين، كما يحتاج الجسم لتوصيلات جديدة لتخطي الاختناقات في بعض الأجزاء من الجسم، وخاصة ما يتعلق بأضخم شريان بالجسم وهو الشريان الأميري الممتد بين أذين الوكرة وبطين الخور. واسترسل الطبيب ـ وهو يتحدث للزوج بصوت خافت حتى لا تسمع الزوجة ـ: التدخل الجراحي لعلاج زوجتك بات ضرورياً لتفادي احتمال إصابتها بذبحة صدرية مميتة أو جلطة دماغية، قد تسبب شللاً لبعض أجزاء الجسم. نظر الزوج إلى زوجته الحبيبة ثم إلى الطبيب، وهو يقول: لقد كنت أقول للأطباء الآخرين: إن الادوية والمهدئات والقسطرات لا تجدي شيئاً، إلا أنهم كانوا مصرين على رأيهم، وكانت نظرتهم قصيرة في عدم التفكير بعلاج جذري للمشكلة، وكان جل تركيزهم على إزالة الاختناقات باستخدام القسطرة، مع أن الإزالات السابقة لم تأتِ بالنتيجة المرجوة. طمأن الطبيب الزوجين بقوله: إن العلاجات الحديثة لهذا النوع من الأمراض باتت متوافرة، فكل ما نحتاجه هو تسليك مرور الدم عبر الصمامات، لتكون أحادية الاتجاه وتركيب شرايين تاجية تتخطى مواقع الاختناقات والترسبات الدهنية، لتساعد في إبقاء جريان الدم بتدفقاته الطبيعية بدون أي عوائق. ثم إن هناك حلولاً إضافية؛ تتمثل في تسليك وتوسيع الشعيرات الدموية الأخرى، لتساعد على إيصال الدم بالكميات التي تحتاجها الأطراف المعنية. ابتسم الزوج في وجه زوجته قبل أن يقطع ابتسامته الطبيب بقوله: إنه لن يستطيع أن يجري الجراحة اللازمة، حيث إن فترة انتدابه وزيارته للمستشفى ستنتهي بنهاية الأسبوع، وإن عليه مراجعة المسؤولين والأطباء للاتفاق على الخطوة التالية بشأن العلاج. الحكاية لم تنتهِ بعد، وأنا لا أعرف نهايتها للأسف. وأرجو أن تكونوا فهمتم المقصد فيما كتبته سابقاً، وإلا أعيدوا القراءة، وفي بالكم أن المريضة هي "قطر" وأن الشرايين والأوردة هي شوارع قطر، وما تعانيه من ازدحامات مرورية يومية، تكاد تخنق الدولة، وتسبب لها جلطة اقتصادية. للأسف ليس في الأفق ـ حتى الآن ـ أي حل لهذه المشكلة المرشحة للاستفحال بشكل أكبر مع ازدياد عدد السكان. وإذا اعتقد المسؤولون أن الانتهاء من توسيع الاختناقات المرورية، وتحويل الدوائر إلى إشارات، أو إن شبكة المترو ستكون حلاً للمشكلة، فعليهم أن يعيدوا التفكير مرة أخرى قبل أن يفاجئهم المستقبل المنظور. فحسب معلومات من ادارة المرور فإن عدد السيارات الجديدة التي يتم تسجيلها شهريا أكثر من 4 آلاف سيارة، أي 48 ألف سيارة سنويا. فهل لشوارعنا القدرة على استيعاب هذا العدد سنويا. لا ينكر أحد حجم الاستثمار الذي قامت به الدولة في قطاعات تطوير الغاز والبترول وبناء المطار والميناء والمدارس والمستشفيات والكثير غيرها، والتي ستعود بالخير على المواطن ورفاهيته، إلا أنها — برأيي الشخصي — لم تدرك أهمية المواصلات، في ربط كل هذه الاستثمارات باستفادة الوطن والمواطن منها.. فما مدى استفادة الطالب من التعليم، وهو يقوم الساعة الرابعة صباحاً، ليركب الباص، فيدور فيه، أكثر من ساعتين قبل الوصول للمدرسة، ثم مثلهما في العودة؟ ما استفادة الدولة من موظف يصل إلى العمل، وهو مرهق و"منرفز" من قيادة السيارة ومجاراة السائقين في الحصول على أحقية المرور أمام الدوارات والإشارات؟ كم ساعة تتطلبها الشاحنة في انتقالها من الميناء إلى المنطقة الصناعية، مع احتساب أوقات حظر دخولها في ساعات الذروة؟ ما القيمة الاقتصادية للأوقات المهدورة بالاختناقات المرورية التي تشهدها الدولة يومياً صباحاً ومساءً؟ لا يوجد أدنى شك أن هناك تكلفة باهظة تتحملها الدولة جراء الاختناقات المرورية، وتشمل جوانب عديدة؛ اقتصادية، واجتماعية، وصحية وبيئية. فعلى سبيل المثال: أثبتت دراسة أجراها معهد تكساس للنقل، أن خسارة الولايات المتحدة الأمريكية من وقود السيارات من جراء ازدحام الطرق، يقدر بـ 67 بليون دولار سنوياً. كما أن تقدير تكلفة الاختناقات المرورية في كندا 6 بلايين دولار سنوياً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تستطيع جهة ما أن تحسب تكلفة الاختناقات المرورية على اقتصاد الدولة؟ الموضوع ـ باختصار ـ أن المواصلات أصبحت ألماً ووجع رأس الوطن والمواطن، حتى بات الحديث عن المرور والازدحامات وأعمال الطرق هي الحديث الدائم في مجالس قطر. وأن الدوحة تحتاج إلى شبكة طرق سريعة، تقطع العاصمة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها بدون دوارات، وبدون إشارات، وبدون رجال شرطة يقفون لتنظيم المرور، فإما هذا وإلا فلا.. وسلامتكم. ◄ فاصلة أخيرة: أصبح من المتعارف عليه عالمياً عن البريطانيين، أن أي لقاء يبدأ عادةً بالحديث عن الطقس. في قطر.. يبدأ أي لقاء بالاعتذار عن التأخر، بسبب الزحمة والاختناقات المرورية!!!!