19 سبتمبر 2025
تسجيلسخنت المياه مجددا في شرق البحر المتوسط. وإذا كانت الحرارة بدأت بالارتفاع مع بدء التوتر التركي-الإسرائيلي بعد انتهاء شهر رمضان فإن الموقد الأساسي الذي لا يزال يغذّي النيران في المتوسط كانت ولا تزال القضية القبرصية. فبعد استيلاء البريطانيين عليها في العام 1878 من السلطنة العثمانية دخلت الجزيرة في مرحلة جديدة حتى العام 1960 تاريخ إعلان الجمهورية القبرصية. نصف قرن والتوتر يلازم مسيرة الجمهورية الوليدة. و تتحول مشكلتها إلى نقطة تقاطع للصراعات الإقليمية والدولية.وإذ تمتاز الجزيرة بموقع استراتيجي مشرف على العديد من الدول فإن بلدين معنيين بها أكثر من غيرها وهما تركيا واليونان. اليوم تكاد مياه المتوسط تشتعل من جراء الصراع على ثروات النفط والغاز التي يمكن أن تظهر في الحدود الاقتصادية البحرية للجزيرة. ويتفاقم التوتر بسبب أن الاتفاقات التي وقعتها قبرص اليونانية هي مع إسرائيل التي تمر علاقات تركيا معها في مرحلة من التردي والسلبية. بدء قبرص اليونانية التنقيب عن النفط شكل شرارة التوتر الجديد وطرح علامات استفهام حول احتمال تصاعد الخلاف وتطوره الى صدام عسكري. وهنا من المفيد الإشارة إلى أن قبرص حالة خاصة بالنسبة لتركيا. فهي مفتاح للأمن القومي التركي بحيث أن من يسيطر عليها بإمكانه كشف كامل الأناضول ووضعه تحت السيطرة. صحيح أن البعض يملك أقمارا صناعية للتجسس لكن الجغرافيا لا تزال عاملا مؤثرا وليس كل الدول تملك أقمارا صناعية.لذلك تضع تركيا خطا أحمر على أية محاولة لتفرد القبارصة اليونانيين ومن خلفهم اليونان بمصير الجزيرة خصوصا أن لتركيا الحدود الأطول على البحر المتوسط وبحر ايجه وقبرص لها أهمية مركزية في القدرة على حماية هذه السواحل الطويلة. ثم إن تركيا لا يمكن أن تسمح بأن يميل ميزان القوة في الجزيرة لصالح القبرصة اليونانيين بشكل يهدد الوجود القبرصي التركي في الجزيرة وهو وجود سكاني ومادي له اهمية استراتيجية للوجود التركي في الجزيرة وفي شرق المتوسط. ويمعزل عن الأبعاد الأخرى المتصلة بالتوتر القبرصي فإن قبرص مرتبطة باتفاقية الضمانات التي وقعتها عشية تأسيسها في العام 1959 مع كل من بريطانيا وتركيا واليونان. ومنحت الاتفاقية الحق لأي من الدول الثلاث الضامنة التحرك مجتمعة أو منفردة لتصحيح الوضع في الجزيرة في حال انتهاك البند الذي يمنع الجزيرة أن تنضم إلى أي اتحاد سياسي أو اقتصادي مع دولة خارجية وهو ما اعتبرته تركيا أساسا قانونيا لتدخلها العسكري في الجزيرة عام 1974 بعد حصول انقلاب طالب بالوحدة مع اليونان.ومنذ ذلك الوقت والأزمة القبرصية لم تجد حلا لها. من هذه الزاوية فإن لتركيا خطوطا حمراء لا يمكن التخلي عنها حتى لو تسبب ذلك بالحرب ولها سوابق في هذا المجال. من هنا فإن رفض أنقرة أن تنقب قبرص اليونانية عن الغاز الطبيعي في المياه الاقتصادية للجزيرة منشأه عدم الاعتراف بسيادة القسم اليوناني على كامل الجزيرة.وهذا يعني أن أي تنقيب قبرصي يوناني عن الغاز الطبيعي في مياه الشطر الجنوبي سيكون مقبولا من تركيا ما دامت لا تتعدى على مياه الشطر الشمالي التركي. ولا يبدو في الأفق ان قبرص اليونانية ستجازف وتمدد التنقيب في مياه الشطر الشمالي. واحتمالات الحرب تتراجع بقوة مع إعلان تركيا أنها وقعت اتفاقا مع قبرص التركية للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية لقبرص التركية. وبذلك يتقاسم الأتراك والقبارصة اليونانيون الثروات كل في منطقته أو منطقة نفوذه لأن البديل هو الحرب. مع ذلك فإن تركيا تمر اليوم بظروف صعبة في سياساتها الخارجية حيث التوترات تسود علاقاتها مع سوريا ومع إيران والعراق وقبرص واليونان وهي دخلت في توتر ايضا مع اسرائيل مع إعلان أنقرة أنها سترسل قطعا بحرية إلى المتوسط لمواكبة سفن المساعدات إلى غزة. والتوتير في قبرص إذ يحفظ المصالح التركية فإنه يشكل فرصة لتركيا لاستعراض قوة في عملية رابحة مسبقا وتعوض بعض الشيء الإخفاقات التي شهدتها الديبلوماسية التركية التي تحول شعارها وفقا لمحللين وسياسيين أتراك من سياسة "تعدد البعد" إلى سياسة "تعدد المشكلات" ومن سياسة "تصفير المشكلات" إلى سياسة "تصفير السياسة". في الخلاصة قبرص خط تركي أحمر لكن استدراج فتح توتر فيها قد يكون مصلحة للديبلوماسية التركية للتعويض في زمن الخسائر المتتالية.