15 سبتمبر 2025
تسجيليخطئ من يتصور أن الاقتتال المذهبي في طرابلس شمال لبنان قد ينتهي يوماً، ومن العبث أن نصدق أن الأمر محصور بين حيّين، يسيطر عليهما الجهل والتخلف والتعصب المذهبي، فالحكاية لم تبدأ اليوم، ولم تسطّر بالأمس، هي تضرب في جذور تاريخ عالمنا العربي وما طرابلس منها إلا مرحلة متقدمة على من سواها من مناطق، إذ إن لبنان لم تصل فيه الأمور العالقة منذ نشأته إلى حلّ جذري. فجميع مشاكل لبنان وتأزماته انتهت بتسوية على مصلحة الأطراف جميعا أو على مصلحة طرف دون آخر. والأزمة الحالية ليست أزمة بندقية وانفلات أمني وتقاعس حكومي أو جهاز أمني بل هي أزمة سوسيولوجية بالدرجة الأولى، ولدت مع لبنان حين كان ماء في جنين الدولة العثمانية، كان الأب غريباً عن لبنان والشرق، إنه الغرب المسيحي الذي سعى في تفتيت الدولة العثمانية متقمصاً دور الراعي والحامي للأقليات الدينية في بلاد السلطنة، فكان الدروز في سوريا - الشام من نصيب التاج البريطاني، وكانت الأقليات المسيحية من نصيب إيطاليا وفرنسا وغيرها من دول الكثلكة. يومها دخلوا وعي الديانات المختلفة في السلطنة التي كانت تهمش العرب وغير العرب، مع تفاوت طبعاً في التهميش الذي كان لصالح القومية التركية التي برزت بقوة مطلع القرن التاسع عشر، حينها تولّد في "اللاوعي" لمعتنقي الأديان المختلفة غير المذاهب السنية أنهم "أقليات" يتبرص بها غول "الأكثرية". وعن قصد وغير قصد، قبل زعماء هذه الطوائف والمذاهب ما أُريد لهم أن يكونوا، فلبسوا لباساً، فُصّل لهم على يدّ الجمعيات التبشيرية التي كانت جزءاً لا يتجزأ من منظومة تجسسية في بلاد الشام. أرجو ألا يفهم القارئ أني ممن يناصبون العداء للغرب، فأنا من أنصار الحوار وبناء جسور التواصل مع الآخر، أياً كان. كما أني لست من مناصري "العقل التآمري" الذين يربطون كلّ ما يحدث بمؤامرات خارجية لسرقة ثرواتنا واستعمار بلادنا. ولا يجوز بسبب الهروب من التفكير التآمري أن نطمس حقائق أقرّ بها مفكّرو وباحثو الغرب قبل نظرائهم العرب. وقد أردت أن أعود إلى أصل المشكلة التي تطورت لاحقاً على يدّ الضحايا أنفسهم لتنتج نفسها بنفسها وتجدد جسدها مع كل جيل جديد. فمصطلح "الأقلية" والعيش ضمن منظومته الفكرية في عالمنا العربي، تدفعنا لإعادة نقد هذا المفهوم في أصله، لأنه ليس وليد ثقافة هذه الأرض، وإنما هو مصطلح فُرض خارجياً وقبلناه داخلياً، بل أصبح مفهوما الأقلية والأكثرية المنطلق في توجهاتنا السياسية والاجتماعية فيما بعد.. وها نحن اليوم نضرس حصاد ما زرعنا من حبوب أُعطيت لنا. وقد توسع هذا المفهوم من إطاره العقدي ليتحكم في كلّ ما هو مختلف بيننا، سواء كان خلافا عرقيا أو لغويا أو دينيا أو ديموغرافيا أو لهجياً أو ثقافياً. إن من شأن التفكير من منطلق "أقلية" و"أكثرية" تعزيز ثقافة الصراع داخل بنية المجتمع نفسه خصوصاً إذا كان يُستعمل على اعتبار أننا في حرب نتصارع فيها لتحصيل مكاسب من حقوق المختلِف معنا، الذي يتحول بطبيعة الحال إلى خصم لنا ولو كان شريكاً لنا في ما عدا ذلك. لقد نجح هذا المنطق في تكريس معادلة فلسفية، تتحكم في سلوكيات أفراد المجتمع، فأضحى الاختلاف وباء، والتطابق صحة وعافية، وهو ما يخالف السنن الكونية والدينية. في حين أن الاختلاف ثراءً وخصوبة وإلاّ لما كانت المرأة غير الرجل، كما أن التطابق عقم وجمود، إذ إن زواج المثلين لا يبني مجتمعاً ولا ينجب ولداً، ولنا في قول الله تعالى خير شاهد" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ". إن صحة الجسد من صحة العقل، وإن صحة المجتمع من صحة الانتماء للأرض والهوية، ولا أريد أن أفلسف الأمور أو أعقد البسيط.. فدواؤنا من دائنا.. ودواؤنا ليس بإقصاء الأكثرية للأقلية، أو تآمر الأقلية على الأكثرية، وإنما في التخلص من المنطق العددي في النظرة للإنسان وقيمه الاجتماعية والفكرية، دواؤنا في استعادة الثقة بمكنوناتنا التي وهبتها السماء لنا، حيث لا قيمة لمخلوق على آخر، إلا بما قدم لأهله ومجتمعه من خير، ألم يقل الله جلّ وعلا " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".