13 سبتمبر 2025

تسجيل

قانون المصالحة يقسم الطبقة السياسية التونسية

24 يوليو 2015

الديمقراطية لا تستقيم من دون حل المسألة الاجتماعية، وإرساء نموذج جديد للتنمية المستدامة في تونس قادر أن يتجاوز الاقتصاد الريعي، ودرجة فساد رجال الأعمال التونسيين في الفترة السابقة.. تلك هي انتظارات الشعب التونسي من الثورة، ومن السنوات الأربع العجاف التي عرفتها البلاد خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثرة، والتي أفرزت سلطة جديدة منتخبة مدعوة إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق رؤية جديدة تستجيب لمطامح الشعب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لكن واقع الحال في تونس بعد الانتخابات، كأنه لم يتغير عن النظام السابق، لا سيما في مجال علاقة المال بالسياسة... وهكذا بدلاً من محاسبة طبقة رجال الأعمال الفاسدين الذين راكموا ثروات فاحشة طيلة المرحلة السابقة، وارتكبوا جرائم الاختلاس الضريبي، الذي بلغ حداً كبيرا يقدره الخبراء بنحو 9 مليارات دينار، أو ما يعادل 4.5 مليار دولار، وهو ما يمثل ثلث موازنة الدولة التونسية، بدلاً من كل ذلك، طرح رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي مشروع قانون المصالحة الاقتصادية منذ الاحتفال بعيد الاستقلال في 20 مارس الماضي، والذي وافق عليه مجلس الوزراء في 14 يوليو الجاري، في انتظار تمريره أمام البرلمان لإقراره، في ضوء حصوله على الأكثرية. وقد نص هذا المشروع على إجراءات خاصة بالمصالحة في المجال المالي والاقتصادي ولم يتعرض إلى المصالحة السياسية التي يبدو أنه وقع تركها لمسار العدالة الانتقالية ولهيئة الحقيقة والكرامة. حيث ورد في فصله الأول أنه « يندرج في إطار تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة ويهدف إلى إقرار تدابير خاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام تفضي إلى غلق الملفات نهائيا وطي صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة الانتقالية». الدولة التونسية ليست شركة، إنها كائن ذو سيادة، والدولة لا يمكن أن تفلس، يبرز السؤال انطلاقا من هذا البعد الأساسي عن كل الهرج في الخطاب السياسي الرسمي عن إفلاس الدولة التونسية، وعن السياسات التي يجب اعتمادها في هذه المرحلة لتجاوز الوضع الاقتصادي الكارثي الذي تعيشه تونس اليوم، من خلال طرح مشروع هذا القانون وهو مالي بالأساس: إنعاش الاقتصاد وتوفير أموال إضافية لخزينة الدولة وذلك من خلال الصلح مع كل من ثبت فساده وتجاوزاته واستيلاؤه على المال العام من أصحاب المال والأعمال. ولم يفصل القانون بين فترة ما قبل الثورة وما بعدها، وبالتالي فإن هذا القانون سيشمل كل من تعلقت بهم قضايا فساد مالي قبل أو بعد 14 يناير2011 ومنشورة اليوم أمام المحاكم. لكن يبدو أن النصيب الأوفر سيكون للفساد المسجل قبل الثروة باعتبار كثرة القضايا المتعلقة بها لدى المحاكم. إن التركيز على موضوع المصالحة الوطنية في هذا الظرف السياسي والتاريخي التي تمر به تونس، ليس بريئاً لأسباب داخلية وأخرى خارجية. فحزب «نداء تونس» وزعيمه التاريخي السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية يقع في نفس الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه حركة النهضة عندما استلمت السلطة عقب انتخابات 23أكتوبر 2011، وهو عدم إدراك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والتي أدّت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، التي تعتبر أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس. لكن رؤية رئيس الجمهورية للمصالحة الوطنية تقوم على طي الملفات الكبرى التي لا تزال موضوع خلاف في المجتمع التونسي، بين فئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق، والذين في معظمهم ينتمون إلى «حزب التجمع» المنحل، وفي الانتخابات الأخيرة ركبوا موجة «حزب النداء» الذي أصبح حاكمًا في البلاد، وبين طبقة سياسية جديدة استولت على السلطة بعد انتخابات23أكتوبر 2011، وأصبحت تلقب بطبقة «الأثرياء الجدد» المنبثقة من حركة الإسلام السياسي، والتي لم يكن لها نظرية للاقتصاد، بل هي انساقت في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية سنة2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم. فهناك المستفيدون من هذه المصالحة الوطنية، وهم من دون شك فئة رجال الأعمال الذين سيعودون إلى أعمالهم من دون محاسبة في انتظار أن يقول القضاء كلمته. ومن المنتظر أن يؤدي هذا القانون إلى خروج المتهمين في قضايا فساد مالي من السجون وإيقاف التتبعات في حقهم ورفع تحجير السفر عنهم بعد دفع ما يوجبهم عليهم قانون المصالحة من مبالغ مالية. وهناك المتضررون من هذه المصالحة الوطنية، وهم بكل تأكيد، الطبقات الشعبية والفقيرة والعاطلون عن العمل، والمساجين السياسيون السابقون في عهدي الديكتاتورية السابقة، ليس لأن هذه الفئات لا تريد المصالحة الوطنية، بل على العكس من ذلك، هذه الفئات تريد فعلا تحقيق المصالحة الوطنية لكنها شريطة أن تكون نتيجة لمسار كامل من تطبيق العدالة الانتقالية، يبدأ بتحديد المسؤوليات للذين ارتكبوا جرائم في العهد الديكتاتوري السابق، وعدم التسامح مع المذنبين والمجرمين والفاسدين السابقين في المجال المالي والاقتصادي، وعدم تمكينهم من الإفلات من العقاب، وأكثر من ذلك عدم تمكينهم من العودة إلى واجهة الشأن الوطني العام من خلال المناصب والامتيازات والترخيص لهم في ممارسة الأنشطة المختلفة.. كما يعتبر هؤلاء المتضررون أن قانون المصالحة الاقتصادية يمثل ضربًا لروح الثورة التي فتحت الأبواب أمام كثيرين لاسترجاع حقوق ضاعت منه أو تضررت أو انتزعت منهم بالقوة ودون وجه حق من قبل من كانوا نافذين أو مقربين من السلطة سابقا، وخاصة لاسترجاع المال العام المنهوب والذي كان بالإمكان أن يساهم في تنمية الجهات لكن وقع الاستيلاء عليه بطريقة أو بأخرى. لقد تصاعدت وتيرة الاحتجاجات ضدّ هذا القانون الذي يحظى بدعم ومساندة برلمانية قوية من أحزاب الائتلاف الحاكم تضمن تمريره والمصادقة عليه رغم أنه يقفز على مبدأ المحاسبة الذي يعدّ من أهم مبادئ العدالة الانتقالية ويمرّ مباشرة لتحقيق المصالحة.. فالنسبة لهيئة الحقيقة والكرامة ترى أن قانون العدالة الانتقالية الصادر في ديسمبر 2013 حدد بكل دقة شروط وإجراءات المحاسبة والمصالحة دون حاجة إلى قانون آخر فضلا عن أن العدالة الانتقالية منصوص عليها في الدستور وهي تعني وفق قانون 2013 المحاسبة والاعتراف ثم إمكانية المصالحة. وبالتالي لم تكن هناك في رأيها أية حاجة إلى إصدار هذا القانون حول المصالحة.. فالمصالحة ـ حسب هيئة الحقيقة والكرامة ـ موجودة بطبعها في قانون العدالة الانتقالية وسن قانون جديد يعني سحب جزء من صلاحياتها. ورأت هيئة الحقيقة والكرامة في ذلك بداية لا تبشّر بعلاقة تكامل وثقة بين السلطات الجديدة وبين الهيئة. وأعربت عن استيائها من عدم تشريكها في أعمال التفكير حول هذا المشروع. ولا شكّ أن الأيام القادمة سيكون هناك موقف حاسم من هيئة الحقيقة والكرامة التي ستتدافع بضراوة على صلاحياتها التي انتهكت بموجب هذا القانون رغم أنها الجهة الدستورية الوحيدة المخولة للبت في مثل هذه الملفات ذات الخصوصية. أما موقف الاتحاد العام التونسي للشغل بوصفه العمود الفقري للمجتمع المدني التونسي، وأهم منظمة وطنية في البلاد، فقد اعتبر أن مشروع قانون بهذا الحجم ويتعلّق بالمصالحة الاقتصادية مع رجال الأعمال يفترض أن يخضع لاستشارة وطنية موسعة تشمل جميع الأطراف لأنه شأن وطني يتجاوز الحكومة ورئيس الجمهورية ليشمل كل التونسيين الذين تضرّروا من حقبة حكم موسومة بالاستبداد السياسي والفساد المالي. على صعيد المعارضة السياسية الصّرفة، تظهر الجبهة الشعبية اليوم بمظهر المعارضة الحقيقية، أولا باعتبار تموقعها في اليسار أي في الجهة المقابلة للحكومة اليمينية الليبرالية، وثانيا من حيث مضامين تحركاتها التي ظلت في أغلبها منتقدة ورافضة لبعض سياسات وقرارات الحكومة منذ توليها مهامها قبل نحو ستة أشهر. وفيما يرى المراقبون أن موقف الجبهة المعارض يعتبر ظاهرة صحية في النظام الديمقراطي، وهو مطلوب، باعتباره جزءا من العملية الديمقراطية التعددية، وتعبيرا عن النضج السياسي، فإن آخرين يرون بأن موقف الجبهة الشعبية المعارض لقانون المصالحة الاقتصادية كان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الاقتصادي الكارثي الذي تعيشه البلاد، وما يتطلبه هذا الوضع الاستثنائي من مرونة في عمل المعارضة. ومن المعروف أن الجبهة الشعبية رفضت قانون حالة الطوارئ، الذي أقره رئيس الجمهورية مؤخرا، واستحسنه التونسيون في معظمهم بهدف محاربة الإرهاب المستوطن في البلاد، كما رفضت الجبهة قانون المصالحة الاقتصادية من خلال ما ذكره نائبها منجي الرحوي الذي دعا أيضا إلى تحريك الشارع من أجل إسقاطه واعتبره طعنا في توجه التونسيين لمكافحة الفساد والمجرمين وقائما على رسكلة الفاسدين وضربا لمنظومة العدالة الانتقالية، لكن من دون تقديم أي بديل من شأنه أن يحقق الغاية نفسها التي تضمنها هذا المشروع أي خلق معادلة بين محاسبة الفاسدين (ماليا) وإعادة الروح إلى الدورة الاقتصادية.