17 سبتمبر 2025

تسجيل

مجلس شريح القاضي

24 يوليو 2014

هذا قاض من طراز فريد مكث ستين عاما قاضيا، وعاش مائة وثمانية أعوام، مكث في قضاء الكوفة - ابتداءً من سن الـسابعة والأربعين ولمدة ستين سنة، وكان يكتب على مجلس قضائه: «إنّ الظالم وإنْ حكمت له ينتظر العقاب. وإنّ المظلوم وإنْ حكمت عليه ينتظر الإنصاف». وكتب أيضا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (إنّكم تختصمون إليّ، وإنّما أنا بشر فأيّما رجل اقتطعت له حقّا من أخيه لا يستحقّه فإنّما اقتطعت له قطعة من النّار سيطوّق بها يوم القيامة).ينتهي نسب هذا القاضي إلى كندة فهو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، وبنو كندة منهم الشاعر المشهور امرؤ القيس، أسلم في اليمن في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- لكنه لم ير الرسول وذهب إلى المدينة في عهد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- فهو من كبار التابعين.وفي قصة إسلامه نقرأ هذه القصة الطريفة، وهي تدل على رجاحة عقله قبل إسلامه، فهي محاورة بينه وبين سيدنا علي، حيث استجواب سيدنا علي عن الإسلام، ومن ثم فنحن أمام عقلية القاضي قبل توليه منصب القضاء.ففي الثلاثين من عمره، بعث رسولُ الله محمد -صلى الله عليه وسلم- عليا إلى أهل اليمن فأسلموا، فسأله شريح: بماذا يأمر دينك؟ فأجابه بقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل - 90]فبرقت عينا شريحٍ. فسأله: بماذا يدعو دينك أيضاً؟ فأجابه وقد أحسّ بتأثّره بمقولة العدل - بقوله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء:58]. فسأل ثالثةً إلام يدعو دينك أيضاً؟ فأجابه بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أقرب لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة :8]. فسأله وماذا يقول نبيّك؟ فأجابه «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه أوّلهم إمام عادل». فاستبشر شريحٌ قائلاً «دين يدعو للعدل» ودخل في الإسلام. فطلب من عليّ أن يعلمّه سورة من القرآن، فاختار له عليّ - وكان قد سمع قصّته وما حدث بأمّه - سورة النّساء، التي تتحدّث عن العدل مع ضعفاء القوم.وكانت أم شريح قد مات زوجها فوضع عم شريح عباءته على أمه فورثها، وباتت ملكا له وفق تقاليد الجاهلية، فأحس شريح بالظلم منذ نعومة أظفاره، ومن ثم فهو يعرف معنى العدل الذي سيطر على كيانه وتمنى أن يطبَّق على الناس، وأن يستطيع الضعيف أن يأخذ حقه من القوي.ولقد كان سيدنا علي في غاية الذكاء عندما لمح شريح وهو متأثر بتعاليم الإسلام وإعجابه بالعدل والإنصاف، ليأتي له بنصوص الإسلام التي تحث على العدل، فذاك الباب هو الذي دخل منه الإسلام إلى نفس شريح الذي بدأ يحفظ سورة النساء التي تحث على أمور العدل بين الناس جميعا، فالله قال لنبيه فيه: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، وقال تعالى: (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وفي السورة قسمة بالأرقام بين الورثة، وفي السورة حقوق الزوجين وكيفية العدل بينهما، وفي السورة، (إن الله يأمر بالعدل).إنه باب عظيم من أبواب الإسلام دخل منه شريح الإسلام ليكون له شأن فيه، حيث سيلي أخطر مناصبه أطول مدة، وهي مدة تحتاج إلى دراسة مستقلة نستعرض فيها القضايا التي وقعت أمام شريح ونحللها وندرس كيفية الاستفادة منها في واقعنا المعاصر، ومن ثم فالحديث حول شريح القاضي موصول إن شاء الله.