17 سبتمبر 2025
تسجيلقبل انقلاب 3 يوليو كان المحللون الغربيون يقسمون أطراف المشهد السياسي في مصر إلى فريقين؛ فريق يضم "ديمقراطيين غير ليبراليين"، وتمثلهم من وجهة النظر الغربية جماعة الإخوان المسلمين، وفريق يضم "ليبراليين غير ديمقراطيين" وتمثلهم المعارضة الليبرالية. وينبع منطق هذا التقسيم من أن الجماعة كانت تتبنى الأدوات الديمقراطية كوسيلة للتفاعل السياسي مع خصومها، وتقبل بالاحتكام إلى الصندوق كمعبر وحيد عن إرادة الجماهير، ولكنها وهي تمارس ديمقراطيتها كانت تستخدم معايير غير ليبرالية فتقدم أهل الثقة على أهل الخبرة، وهو ما عرف في حينه بسياسات أخونة الدولة. أما المعارضة فوصفتها هذه التحليلات بالليبرالية لكونها تعلي قيم الحرية السياسية وتؤكد على سيادة القانون وعلى مدنية الحكم، ولكنها في ذات الوقت وصفتها بأنها غير ديمقراطية لكونها تضغط بشدة من أجل اعتماد أساليب لا تحتكم إلى الجماهير، وتمارس نوعا من الوصاية على الناس، حيث ترى أنها الأعلم بما يصلح أحوال البلاد، ولا تثق في ميول الجماهير كونها تنحاز إلى الخطاب الديني وتتشكك إزاء الخطاب المدني الذي تعبر عنه هذه النخب الليبرالية. الأحداث الأخيرة نزعت عن هذه المعارضة أي صفة ليبرالية كانت توصف بها، لتصبح معارضة غير ديمقراطية وغير ليبرالية في الوقت نفسه، فقد قبلت قوى المعارضة كل ما يتضاد مع الفكرة الليبرالية الأصلية ومارست كل ما يتعارض مع قيمة الحرية التي كانت تعرّف نفسها من خلالها. فبعد الانقلاب ظهر واضحا للعيان كيف أن المعارضة ذات ميول إقصائية تعتبر السياسة مباراة صفرية يفوز فيها طرف ما بكل شيء ويخسر الطرف الآخر كل شيء، كما ظهر كيف أنها معارضة غير سلمية فقد قبلت بالإجراءات القمعية التي تعرض لها خصومها على يد الأمن والمتعاونين معه من البلطجية، وأنها معارضة وصولية تقبل التمويل الخارجي تحت شعارات "دعم الديمقراطية" ليس من أجل تدعيم وضع الحريات وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية وإنما لإسقاط أول رئيس مدني منتخب. أما الانتحار الحقيقي الذي مارسته المعارضة الليبرالية فتمثل في قبولها التحالف مع العسكر لتمرير الانقلاب. فالحشد الجماهيري الذي شهدته مصر في ال 30 من يونيو، لا يمكن الجزم بأنه كان قادرا على الإطاحة بالرئيس المنتخب لولا التنسيق الذي تم بين هذه المعارضة الليبرالية وبين قيادات الجيش وفق ما أصبح الآن معلوما من تقارير بثتها كبريات الصحف العالمية حول اجتماعات تم فيها التحضير لهذا الانقلاب. هذا التحالف بين القوى الليبرالية وبين العسكر عكس اختيارا طوعيا ولم يعكس حالة استثنائية "اضطرت" المعارضة للقبول بها. فلقد كان بإمكان المعارضة أن تطيح بحكم الإخوان من خلال الأدوات الديمقراطية، وكانت التوقيعات التي جمعوها في إطار ما عرف بحملة "تمرد" والتي قدروها بالملايين (!) كفيلة بأن تجلب لهم النصر في أي استحقاق انتخابي قادم، كما كان بإمكانهم استغلال حالة السخط الشعبي؛ والذي كان في قدر كبير منه غضبا حقيقيا، على أداء كل من الرئاسة والجماعة، للتغلب عليهم، ولكن النخبة الليبرالية آثرت أن ترتمي في أحضان العسكر، وقبلت أن تدخل إلى المشهد السياسي على ظهر دبابة، كما قبلت ما تلا ذلك من أعمال اعتقال تعسفي، وتعاطت بمنتهى الأريحية مع كافة مظاهر تسييس القضاء، ومع تقييد الحريات وإغلاق قنوات الإعلام المحلية، والتشويش والتضييق المتعمد الذي شهدته ومازالت تشهده وسائل الإعلام العالمية. أما أخطر ما في الأمر فهو ردود فعلها السلبية إزاء أعمال القتل الذي تورط فيها النظام الانقلابي في مصر، سواء بشكل مباشر كما في مذبحة الحرس الجمهوري، أو عن طريق الوسطاء كما حدث في محافظتي الإسكندرية والمنصورة وقبل ذلك في أحداث ميدان النهضة. النخبة الليبرالية إذن تتنكر لكل مقولاتها القديمة وقت أن كانت في المعارضة، وسوف تحتاج إلى أن تبذل جهدا كبيرا لاستعادة ثقة الناس بها، خاصة أن المقابلة التي كانت تقيمها بين القيم الليبرالية وبين قيم الدولة الدينية التي أعلنت مرارا وتكرارا عدم استعدادها للعيش في ظلها اتضح للجميع زيفها. فبعد أن كانوا يؤكدون أن الدولة الدينية هي دولة غير مدنية إذا بهم يقبلون أن يستلموا الحكم في ظل هيمنة العسكر، أما الأسلمة التي حذروا من أنها بمثابة خطر داهم على الحقوق والحريات، فإنها لم تفعل طوال عام كامل ما فعلوه هم وحلفاؤهم خلال أيام معدودة من اغتيال الحقوق والحريات، أما زعمهم بأن الإسلاميين لديهم نزوع استبدادي لاستخدام الديمقراطية كوسيلة ثم الإطاحة بها بمجرد الوصول للحكم، فقد دحضه قبولهم أن تخرج شرعيتهم من فوهة مدفع. أما زعمهم بأن الدولة الدينية تستخدم خطابا وصائيا وأبويا، فقد كذبه استخدامهم لخطاب عفا عليه الزمن وترويجهم لنموذج سياسي تستحي منه الشعوب الآخذة في النمو، يحكم فيه العسكر من وراء ستار فيما يتصدرون هم المشهد كديكور، لا يملكون من قرارهم شيئا من دون الرجوع إلى قائدهم العسكري. وإذا كانوا قد وصفوا حكم الإخوان بأنه يقمع الأقليات، ويجبر الناس على الخضوع للحاكم المستبد، فقد باركوا كل الإجراءات الاستثنائية التي قام بها العسكر ضد خصومهم، وتعاموا عن الكتل البشرية التي تمثلهم والتي تغص بها الشوارع، وتمتلئ بها الميادين، معتبرين أن هؤلاء خارجين عن الصف ومن ثم فإن تجاهلهم أمر مبرر ومفهوم. المعارضة الليبرالية تقدم إذن نموذجا شديد النكارة للفكرة الليبرالية، نموذجا يطرح بدائله في إطار من القوة الباطشة، التي لا تخاطب الناس من خلال القدرة على الإقناع ولكن من خلال القدرة على الإرهاب والإرغام، أو في أحسن الأحوال من خلال الوصاية على الآخرين باسم الحرية!