23 سبتمبر 2025
تسجيللعل أكثر أمر أصاب السودانيين وسكان العاصمة الخرطوم الى جانب الحرب التي اندلعت بالإحباط والحزن، هو الإعلان عن حالات الإجلاء الواسعة لطواقم السفارات الأجنبية والعربية فى الخرطوم الى جانب العاملين الأجانب في المنظمات الدولية والشركات. هذا الأمر على كونه امراً يخص تقديرات تلك الدول وسعيها المفهوم في الحفاظ على سلامة طواقمها الدبلوماسية ومواطنيها فى الخرطوم والسودان، لكنه فى نفس الوقت أرسل رسالة نفسية سيئة للغاية للسودانيين ورسالة مبكرة تقول بأن هذه الحرب لن تنتهي قريبا حسب تقديرات هذه الدول وبالأخص الدول الكبرى منها مثل امريكا وبريطانيا ومجموعة الترويكا، الى جانب بعثة الأمم المتحدة نفسها المعنية بالمهام الفترة الانتقالية والتى أصبحت فيما بعد الجهة المسيرة للتفاوض بين الكتل السياسية المتنازعة ومعها الاتحاد الأفريقي وهى البعثة الأممية الاستشارية برئاسة المبعوث الأممي السيد فولكر الالماني الجنسية والذي يجيد التحدث باللغة العربية تسمى هذه البعثة (بيونتامس).بالنسبة لي ولآخرين جاء الإحباط من أن المجتمع الدولي الممثل فى البعثة الأممية والدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية كانت تشكل تواجداً كثيفاً فى الأزمة السياسية السودانية التى أوصلت تداعيات طابعها الأزموي وانغلاق افق حلولها لانفجار الحرب فى قلب الخرطوم هذا التواجد وضع إحساسا زائفا لدينا وربما اضفينا عليه بعدا عاطفيا ما.. بأن هذه المنظومات من دول ومنظمات أممية مهتمة معنا في الوصول لحل سلمي وستبقى معنا فى (السراء والضراء) وكأننا الدولة الوحيدة التي يصحو العالم على مشاكلها وينام على فكرة حل ازمات ومشاكل فرقاء العملية السياسية فيها. ولكن كانت المفاجأة مع انطلاق أول رصاصة أو بالأحرى صوت مدفع الرشاش فى قلب الخرطوم شاهدنا كل اولئك يركضون باتجاه المطارات والمواني طلباً للنجاة من بلد يحرقها ابناؤها. شخصياً كنت وزوجتي ضيوفا على الإفطار الرمضاني الذي أقامه السفير البريطاني في الخرطوم قبل ايام قليلة من الحرب للقوى السياسية والفاعلين فى حقل العمل وكان معظمهم من عضوية كتلة الحرية والتغيير أو القريبين منها فى القناعات والرؤى الداعمة للاتفاق الإطاري الذي وقع بين القوى السياسية والأطراف العسكرية. لكن بشكل مفاجئ حدث الاختلاف حول توقيت اجراءات الدمج بين قادة الجيش والدعم السريع وتوقيتها وبالتالي ثم لاحقاً أسقطت كل الإجراءات السياسية التي اقترحها الاتفاق الإطاري لتحل محلها لغة الحرب والقوة. غادرت سكني في اليوم العاشر للحرب ووسط الأشلاء والجثث الملقية على الشارع الذي خرجت منه من مسكني فى الخرطوم بحري حي كافوري وهو نفس الشارع الذي كنت قبل ايام قليلة فقط أمارس فيه رياضة المشي مطمئناً لأحوال الحياة وألقي فيه التحايا على بعض المارة الذين أعرفهم ها هو الآن يكشف لي عن الفرق بين الحرب والسلام. أخذت أنا وزوجتي طريقاً شاقاً ومكلفاً باتجاه مدينة كوستي على الحدود من جنوب السودان بغرض عبور حدود الجنوب لكن الوضع كان أيضاً لا يبشر بالخير مع أعداد النازحين من الخرطوم من مواطني جنوب السودان والأثيوبيين والأرتريين الذين غادروا العاصمة الخرطوم باتجاه جوبا عاصمة جنوب السودان المفارقة أن وضعهم نفسه فى السودان كان تحت مسمى لاجئ. بعد أيام فقط سمعنا بأن دولة قطر قررت إجلاء المقيمين في دولة قطر من السودان عبر طائراتها التي بدأت فى نقل الإغاثة والمعونات من أدوية وتجهيزات طبية حيوية تحتاجها مستشفيات السودان. أخذت زوجتي وطفلتي الصغيرة وتحركت باتجاه ميناء بورتسودان حيث تحط الطائرات القطرية هناك وكانت أيضاً رحلة طويلة استغرقت يوماً كاملاً بالباص ثم مع وصولي مساءً ذهبت للتسجيل بفندق يسنى (شقق السواحلي الفندقية) فى مدينة بورتسودان حيث تقيم البعثة هناك ووصلت متعباً وفى بالي أنني سأحتاج الى إجراءات معقدة للوصول للطاقم الدبلوماسي القطري لأتفاجأ بالسيد السفير نفسه السيد محمد ابراهيم السادة ومعه طاقم سفارته يقف في الشارع أمام الشقق الفندقية وسط الجموع يضحك مع هذا وينصت باهتمام لهذا ويقوم بنفسه بإجراءات أخذ البيانات بدا لي وقتها أن السفير كان وكأنه يقوم بحالة مواساة طيبة لنا ويخفف من صدمة فقداننا لوطننا ويربت على حالة الجرح النفسي الذي حمله القادمون معهم من الخرطوم ومن كل مدن السودان. نفس طاقم هذه السفارة ستجدهم فى مطار بورتسودان وفى وسط منطقة الإقلاع تحت شمس صيف حارقة يشرفون على إنزال مواد الإغاثة العاجلة ويطمئنون على إجلاء العائدين الذين بلغ عددهم أكثر من الف شخص توزعوا بين أكثر من ثماني رحلات أو أكثر. لم يكن هذا الأمر سهلاً إنزال الإغاثات وإجلاء العائدين بالنظر للطاقم الصغير لسفارة قطر فى الخرطوم كان جُهداً يتطلب جيشا كاملا للإشراف على الترتيبات اللوجستية ولم يجلس السفير ولا طاقم السفارة في مكاتبهم بل نزلوا وسط الناس حتى إنك لولا الزي والسمت الخليجي القطري ما كنت لتميز فى زحام العائدين بين السفير وغيره ممن ينتظرون الإجلاء.