12 ديسمبر 2025

تسجيل

ربيع بورما.. و"الربيع العربي"!

24 يونيو 2012

أثار خروج أونغ سان سو تشي، سيدة بورما الأكثر شهرة، الكثير من التأملات التي يمكن إسقاطها على "الربيع العربي"، للمرة الأولى منذ أربعة وعشرين عاماً تستطيع سو تشي أن تخاطب العالم مباشرة، خرجت من رانغون بعد سجن وإقامة جبرية طويلين، لكن أيضاً بعد انتخابات فازت بها وفاز حزبها بأكثرية ساحقة في برلمان يمكن اعتباره تجريبياً وخطوة أولى للانتقال من حكم الجنرالات إلى حكم ديمقراطي، وُصفت سو تشي بأنها اختزلت في شخصها "سلطة الذين لا سلطة لهم"، ولم يكن لديها في معركتها ضد الحكم المسلح سوى "القوة المعنوية"، الصمود والصبر والصمت وبعض قليل من الكلام الذي كان يكلفها الكثير عندما يتاح لها أن تطلقه، ولو خلسة، لكنها كانت مستعدة دائماً لأي تضحية من أجل بلادها، ومن أجل شعبها الذي لا يزال أسيراً. لم تفعل الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما حتى الآن أكثر من تخفيف شدة ممارساتها، لكن هذا القليل، الذي سمح بإجراء انتخابات معقولة، بدا فتحة كبيرة يمكن النفاذ منها إلى تحسين التجربة وتوسيع مساحة الحريات، وفي العادة يبدأ العسكر بالتنازل عندما يبلغ فائض القمع حداً لا يحقق لهم المصلحة التي ينشدونها في مواصلة السيطرة على الحكم، خلال ربع قرن راقبوا بغضب ظاهرة سو تشي اللاعنفية وكيف أنها تسببت لهم بمعضلات لا تفيد فيها ترساناتهم المتخمة بالأسلحة، تفاقمت الأزمات الاقتصادية، كشفهم الزلزال الذي بدوا حياله عاجزين عن واجب إنقاذ الناس بعدما انشغلوا طويلاً في قتلهم أو سجنهم وتعذيبهم، ثم أدركوا أخيراً أن العزلة الدولية التي فرضت عليهم واستهزأوا بها، استطاعت أن تشلهم وتفرغ سطوتهم من أي معنى. السيدة الوحيدة المعزولة أصبحت أيقونة عالمية، الجميع يشببها الآن بنيلسون مانديلا، وهناك من يرى فيها نسخة أخرى من غاندي، كلما أمعن العسكر في عزلها زاد الحديث عنها، فتحوا لها الأبواب لتغادر أكثر من مرة، لكنها عرفت الضغط الذي يشكله وجودها عليهم، سواء كانت في سجنها أو في منزلها، والأهم أن الشعب سيفقد كل أمل إن هي غادرت، صحيح أن إعلام الغرب ذهب إلى أقصى حد في تلميع صورتها، لكن الأصح أنها لم تستغل الإعلام لأمجادها الشخصية وإنما لأجل قضيتها، وفي خروجها الأول إلى أوروبا بدت مهمومة بالمستقبل، وكأنها نسيت تماماً سنوات الألم والجمر، فالمهم لديها الآن الذهاب إلى أمام في مسيرة الديمقراطية، لذلك فهي أكثرت من نداءات المساعدة والانفتاح على بلادها، بل دعت رئيس الوزراء البريطاني إلى استضافة الرئيس البورمي. كتب أحد المعلقين البريطانيين أن ليس هناك أونغ سان سو تشي في مصر، وأن ثوار ميدان التحرير "الذين كسبوا قلوبنا وعواطفنا" بمطالبتهم بالحرية قد "خسروا" الآن معركتهم، واقع الأمر أن نموذج سو تشي لم يوجد في ليبيا ولا في اليمن، ولم يظهر الآن في سوريا، حيث الحاجة ماسة إلى وجه يمثل الثورة ويجسدها، لعله اختلاف الثقافات، رغم تشابه الأنظمة العسكرية البحتة، لا يبلور نماذج عربية، في مسيرة الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي حفلت سجون العدو بشخصيات مناضلة فلسطينية تجاوزت الرقم القياسي لمانديلا في الاحتجاز، لكن الفارق أن حتى النظام العنصري في جنوب إفريقيا، رغم تخلفه ووحشيته، لم يصل إلى حد إنكار وجود شعب آخر في ذلك البلد، إذ كان تمييزه العنصري ضد السود اعترافاً بوجودهم، وهو الاعتراف الذي أدى بعدئذ إلى الرضوخ للضغط الدولي والاعتراف بحقوقهم، أما النظام الإسرائيلي الأقرب إلى النازي منه إلى أي شيء آخر، تعامل مع الشعب الفلسطيني وكأنه غير موجود أو ما كان له أن يوجد وطالما أنه وجد فلابد من تصفيته بأي شكل وأي أسلوب، ولم يكتف هذا النظام الصهيوني بتحطيم شخصية معتقليه ومعنوياتهم، وإنما عمد أيضاً إلى تصفية قادة الفلسطينيين ورموزهم في الخارج، وحتى بعدما وقعوا معه اتفاق سلام لم يتردد في وضعهم جميعاً على لائحة التصفية، بمن فيهم الذين سعوا إلى سلام حقيقي. قد يطرح السؤال تكراراً، لماذا لا تتيح الثقافة العربية ظهور نماذج لا عنفية تكون قدوة لشعوبها، واقعياً لم يخطط مانديلا ولا غاندي ولا سو تشي لما توصلوا إليه، فالتجربة قادتهم إلى ما هو ممكن ومتاح، وإذ وجدوا احتراماً وتقديراً من الشعب، ومواكبة من العالم، وإرباكاً لدى الخصوم إلى حد إبقائهم على قيد الحياة بدل التخلص منهم، فقد ازدادوا اقتناعاً بجدوى ما يفعلونه وبأنهم مهما بلغت الصعوبات واستشرى العنف يجب أن يبقوا على مسلكهم، في النهاية كان "المشكلة/الحل" للنظام العنصري في بريتوريا، وها هي سو تشي تبدو بمثابة نافذة غير متوقعة للجنرالات البورميين إذ بدأوا يدركون أنه لابد من التصالح مع الشعب وإن بعد مسيرة طويلة، في الحالين كان الموقف الدولي مساعداً، ولو بطيئاً، أما في حال الشعب الفلسطيني فإن المجتمع الدولي يبدو أكثر عنصرية من نظام بريتوريا وأكثر قسوة من نظام بورما في دعمه الأعمى لنظام مجرمي الحرب الإسرائيليين، على العكس، كان الموقف الدولي مستعداً دائماً لتبرير الجرائم، ولا يزال مصراً على تغطيتها. تكمن المفارقة في أن النموذج الإسرائيلي – النازي هو الذي بث العدوى في الثقافة السياسية العربية ما بعد استقلال الدول عن مستعمريها، فانتفى إلى حد كبير إمكان ظهور نماذج مناضلة تستطيع أن تقود شعوبها إلى طموحات الحرية والديمقراطية وبالوسائل اللاعنفية، إذ خيّرت الأنظمة معارضيها بين السجن/القبر أو الاغتيال في المنفى، وكانت تجارب العراق وسوريا وليبيا بالغة الدلالة على ما سمي "التجريف السياسي" الذي يقضي على الظواهر الخصبة التي يمكن أن تسهم في التطوير، ولعل محنة سوريا الراهنة تشير إلى أن هذا النظام مضى حتى أبعد من نظيريه العراقي والليبي في تدمير المدن والمنشآت وإزهاق الأرواح والإصرار على مصادرة مستقبل يعلم أنه لن يكون جزءاً منه.