31 أكتوبر 2025
تسجيلخلال مؤتمر صحفي لجوش إرنيست، الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، وتعليقاً على غياب الملك سلمان عن قمة كامب ديفيد، نطق الرجل بهذه العبارة مخاطباً الصحافيين: "أنا أعرف أن هناك بعض الهمس بأن هذا التغيير في خطط السفر [للملك سلمان] كان يهدف لإرسال رسالة للولايات المتحدة. وإذا كان الأمر كذلك فإنني أُعلمُكُم أنه لم يتم استلام الرسالة"! هكذا، وحسب ألف باء السياسة الأمريكية، نتأكدُ أن الرسالة وَصَلت.لانقصد أن ثمة (صراعاً) بين أمريكا من جهة والسعودية ودول الخليج العربي من جهة أخرى، فهذا يُخالف منطق الواقعية في العلاقات الدولية. وربما يَختصرُ الموضوع ماورد في تقريرٍ لمؤسسة Global Risk Insight التي تُحلل المخاطر والنزاعات الدولية، تقول في ختامه: "كما يظهرُ من القمة، تبقى قضايا الدفاع والأمن والعلاقات التجارية بين أمريكا و دول الخليج مهمةً لجميع الأطراف. من غير المتوقع أن يتغير هذا في أي وقتٍ قريب. لكن العلاقات بين هؤلاء الحلفاء لم تعد متقاربة بأي درجة كما كانت عليه في الماضي".يتمثل جوهر القضية إذاً في انتقال العلاقة بين الطرفين إلى درجةٍ أعلى من الندية، تقوم على الإدراك المتجدد لقوة وحجم الأوراق التي يملكها الطرف الخليجي في خضم عملية (التدافُع) التي تحكمُ مجال العلاقات الدولية. أما العامل الرئيس في الموضوع فيكمن في ظهور (الإرادة السياسية) لاستعمال تلك الأوراق، وفي التعبير عن تلك الإرادة عملياً، وليس التلويح بها نظرياً فقط.هذه جملة عناصر يمكن التأكيد بأنها جديدة في معادلة العلاقات الخليجية الأمريكية. وإذ تُدرك السعودية، ومعها الخليجيون، كل الحقائق المتعلقة بقوة أمريكا ودورها المحوري والقيادي في العالم، وتتعامل مع تلك الحقائق بعقلانيةٍ وموضوعية. لكنها تُدرك أيضاً، بشكلٍ متزايد، أن ثمة ساحات ومداخل للتعامل النِّدي المذكور هي من صُلب طبيعة النظام الدولي، وفي مجال العلاقات مع أمريكا تحديداً. المفارقةُ أن أمريكا نفسها تعرف هذه الحقيقة بكل وضوح، وتبني سياساتها الخارجية بناءً عليها.لهذا، يُصبح ساذجاً التفكيرُ بوجود تناقض بين إدراك دور أمريكا في العالم والإقرار به من جانب، وبين البحث على الدوام عن سياسات خلاقة ومُبتكرة تُمارسها الدول الأخرى للتعامل مع ذلك الواقع بما يُحقق مصالحها، من جانبٍ آخر.هذا مادفعنا للقول سابقاً أن القمة الخليجية الأمريكية الأخيرة كانت، على المستوى الاستراتيجي، الخطوة الأولى في مسيرة جديدة لنمطٍ مُختلف من العلاقات. وستكون القرارات والممارسات الصادرة عن الجانب الخليجي في الفترة القادمة عنصراً رئيساً في تحديد مصير تلك المسيرة ورسم اتجاهها.هنا تحديداً يأتي دور القضية السورية. حيث باتت مفصلاً رئيساً سيؤثر جدياً في طبيعة القرارات الأمريكية المتعلقة بالقضايا الأخرى، خاصةً في الموضوع الإيراني بالغ الحساسية.والواضح أن إدراك الإدارة الأمريكية لهذه القضية هو مادفعَ أوباما إلى الإدلاء بتصريحات، بعد القمة، حاولَ فيها بشكلٍ ظاهر (إحباط) الزخم الخليجي المتعلق بالموضوع السوري. خاصةً حين رأى إصرار الخليجيين على مواقفهم المُعَبَّر عنها رسمياً في قمتهم الأخيرة.بل إن ثمة تحليلات تتحدث عن خشية الإدارة من الدور الإقليمي المتصاعد للسعودية والخليج، وهو مايدفعها إلى مزيدٍ من الإصرار على (موازنة) ذلك الدور من خلال الحفاظ على الدور الإيراني في سوريا، مهما بدَت السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالموضوع بعيدةً عن كل الأخلاقيات والمبادىء. وكان لافتاً في هذا الإطار استخدام تكتيك تغيير الأجندة Agenda Shifting عند الحديثُ في أمريكا عن تقدم الثوار السوريين وانتصاراتهم، حيث تم إدراج الموضوع تحت عنوان: (القلق من اتساع سيطرة المتشددين)!..ومع الخلخلة الكبيرة في صفوف نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين وأتباعهم من لبنان والعراق وغيرهما.. يبدو واضحاً أن انهيار النظام، ومن خلال استمرار وتصاعد الزخم الخليجي تحديداً، سيكون دفعةً قوية لدور الخليج الإقليمي، تُساعد على كسر هلال التدخل الإيراني في المنطقة، وعلى تحقيق المصالح الاستراتيجية للخليجيين والعرب والسوريين معاً في نهاية المطاف.لامفر هنا من الحديث عن مسؤولية السوريين المتصاعدة في إنجاح السيناريو المذكور. وسيكون غَرقهُم في صراعات جانبية حول مسائل رمزية أو منافسات أيديولوجية نوعاً من الطفولة السياسية لم يعد له مجال إذا كانوا يريدون الحفاظ لأنفسهم على حدٍ أدنى من الاحترام، فضلاً عن الحفاظ على دورهم في تحرير بلادهم من طغيان الأسد ونظامه، ومن قوى الاحتلال التي باتت تملأ الأرض السورية.يسري هذا تحديداً على قوى المعارضة السياسية والعسكرية السورية بطبيعة الحال. فمن ناحية، بات مطلوباً بإلحاح الوصولُ لمعادلة تقاربٍ حقيقي وفعال بين الفصائل العسكرية والائتلاف الوطني، بعد أن صار معلوماً بالضرورة استحالة حركة أحد الطرفين لتحقيق إنجازات حقيقية بعيداً عن الطرف الآخر.ومن ناحيةٍ أخرى، يبدو ضبط الأوضاع التنظيمية والسياسية داخل الائتلاف نفسه أولويةً مُلحة، وفي جملة مسارات يعرفها أهل الائتلاف، قد يكون من أهمها تجنبُ الدخول في نفق انتخاباتٍ رئاسية جديدة، بكل مايصاحبها من أجواء سلبية. ويبدو التجديدُ لرئيس الائتلاف الحالي التصرفَ السياسي المنطقي في هذه الظروف. خاصةً بعد الأداء المتميز للرجل والقبول المتقدم له في الأوساط الإقليمية والدولية.أخيراً، سيتمثل الاختبار الأقسى للمعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري في قدرتها على صياغة رؤية سياسيةٍ لمستقبل الدولة السورية الجديدة في المنطقة، بشكلٍ يُمكن معهُ تقديمُها للمجتمع الدولي كـ (بديلٍ) حقيقي. وهذا يتضمن تفاصيل حساسة تتعلق بالموقف من الفكر المتطرف وجماعاته، وبمستقبل الأقليات في البلاد، وبضمانات ترسيخ الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة..بكلامٍ آخر، لن يمكن للخليج ولا لغيره أن يقدم شيئاً للسوريين مالم يتصرفوا بمنطق رجال الدولة ومنطق القيادة. بعيداً عن الشعارات والمزايدات والشعبوية التي قد تؤهلُ للتنافس على مقعدٍ في الائتلاف هنا وبضع لافتات مديحٍ هناك، لكنها لاتصلحُ لقيادة ثورة وبناء دولة بأي حالٍ من الأحوال.