13 سبتمبر 2025

تسجيل

سوسيولوجية جمهور وسائل الإعلام (1)

24 مايو 2014

يتكلم الكثيرون، من ساسة ومعلنين وصانعي القرار ومديرين ومسؤولين ودعاة، عن الجمهور وكأنه كتلة واحدة متجانسة ومتناغمة والواقع أن هناك جماهير مختلفة وعديدة ومتنوعة. فمصطلح الجمهور في الدراسات الإعلامية مر بمراحل عديدة عبر التاريخ، خاصة عبر تلك المحطات التي عرفت اختراعات لوسائل اتصال جديدة وآخرها الفيسبوك وتويتر ويوتوب وغيرها كثير، الأمر الذي أفرز أنواعا جديدة من الجماهير تتفاعل بأنماط وأشكال جديدة من الاتصال. الجمهور في العملية الاتصالية هو العنصر الذي يتلقى الرسالة الاتصالية أو الإعلامية، ويتفاعل معها ويتأثر بها. وهو الجهة التي توجه إليها الرسالة وتقوم بحل رموزها، ولا شك أن فهم الجمهور وخصائصه وظروفه يلعب دورا مهما في إدراك معنى الرسالة، ودرجة تأثيرها في عقلية ذلك الجمهور. فنجاح العملية الاتصالية يجب ألا يقاس بما يقدمه المرسل، بل بما يقوم به المستقبل سلوكيا. ولا يمكن أن نتوقع أن الجمهور يصدق وينصاع تلقائيا للرسالة الإعلامية، فهو قد يرفضها، أو يستجيب لها، إذا كانت تتفق مع ميوله واتجاهاته ورغباته، وقد يتخذ بعض الجمهور موقف اللامبالاة من الرسالة ولا يتفاعل معها. يرتكز مفهوم جمهور وسائل الإعلام في صياغته الشكلية وفي مضامينه الراهنة على جملة من الاعتبارات لها علاقة بالتطور السريع الذي تشهده المجتمعات الحديثة في مجالات الإعلام والاتصال الجماهيري، خاصة انعكاسات الاستعمال المكثف لتكنولوجيات الاتصال التي أدت إلى التفكير في إعادة صياغة العديد من المفاهيم السائدة حتى تتمكن من استيعاب العناصر المستجدة الناتجة عن هذا التطور؛ غير أن إعادة صياغة المفاهيم غالبا ما تضيف عناصر جديدة مستجدة، ولا تعني دائما وبالضرورة إلغاء و/أو تعديل العناصر السابقة التي تدخل في تكوين المفهوم. ورغم أهمية هذا المفهوم في العملية الاتصالية، إلا أن لأصله التاريخي دورا أساسيا في الدلالات المختلفة والاستعمالات المتعددة لمصطلح "الجمهور". وقد خضع المفهوم في تشكيله إلى مرحلتين مهمتين، حيث قسمتا كالتالي: مرحلة ما قبل ظهور وسائل الإعلام: كانت فكرة الجمهور في أصلها تعني هؤلاء الذين يقبلون على عرض درامي أو لعبة أو أي استعراض عام يستقطب عددا من الناس. وكان هذا الجمهور يتصف بعدة مميزات، إذ إن جميع أفراده معروفون بذواتهم ومحددون في الزمان والمكان، ذلك أنهم سكان لمدينة أو قرية ما، وكان تجمعهم لتشكيل جمهور العبادة أو المسرح أو الملعب أو السوق غالبا منضما بحكم العادة ومعين المواقع وفقا للمراتب والمراكز الاجتماعية، تشرف عليه سلطة دينية أو روحية أو إدارية، حيت كان يجلس سيد القبيلة في الأول ثم تأتي حاشيته ثم النبلاء حتى نصل إلى جميع الناس وقد أضفت تلك السلطات على الجمهور طابع مؤسسة تفرض سلوكات جماعية معينة. العديد من هذه الخصائص ما زال قائما في المفهوم السائد في الاستعمالات الراهنة للجمهور مع بعض التعديلات والتغييرات الشكلية في الترتيب والأهمية.أما مرحلة ظهور وسائل الإعلام الجماهيري، فقد قسمت هذه المرحلة بدورها إلى أربع مراحل مهمة أسهمت في إضافة عناصر جوهرية وإدخال تعديلات شكلية على عدة خصائص ويتجلى ذلك في المرحلة الأولى التي تعتبر أهم مرحلة في تاريخ وسائل الإعلام الجماهيرية والتي تنعكس على تشكيل مفهوم الجمهور بشكل ما، إذ عرفت اختراع حروف الطباعة في القرن الخامس عشر على يد الألماني يوحنا جوتنبورغ، مما أدى إلى ظهور جمهور القراء بفضل التمكن من إصدار المنشورات والمطبوعات، بما فيها الصحف فيما بعد وتوزيعها على نطاق واسع. وقد أفرز هذا التطور النوعي تقسيما اجتماعيا واقتصاديا كان معروفا في السابق بين الأغنياء والفقراء والحضر والبدو وساعد هذا التطور على تكوين مفهوم أولي لما يعرف حاليا بالجمهور العام كفكرة أو رأي يربط بين عدد غير محدود من أفراد يوجدون ضمن السكان ويختلفون عن عامة الناس تبعا لاهتماماتهم ومستوى تعليمهم وتطلعاتهم الدينية أو السياسية أو الفكرية. أما المرحلة الثانية، فتتمثل في التطور التاريخي الثاني الذي كان له التأثير البالغ في تشكيل الجمهور انطلاقا من الإفرازات الاجتماعية والثورة الصناعية التي أعطت دفعا قويا للطباعة، مما أسهم في تنمية وتسويق الصحافة، خاصة الصحافة الشعبية أو الموجهة إلى أفراد المجتمعات الجماهيرية "Mass society " الجديدة التي نمت حول المدن الصناعية الكبرى المكونة، خاصة من شتات المهاجرين الذين كانوا ينعمون بروابط عائلية وصلات اجتماعية قوية وأصبحوا يعيشون في مدن ومجتمعات حديثة تتميز بالتباين بين أفرادها لغياب قيم ثقافية وتقاليد وأعراف اجتماعية مشتركة. في هذه المرحلة التاريخية بدأت الصحافة تتخذ شكلها الجماهيري الذي ما زال يلازم وسائل الإعلام والاتصال إلى الوقت الراهن مع بعض التعديلات الشكلية. أما المرحلة الثالثة فميزتها العوامل التي أسهمت في تشكيل مفهوم الجمهور ورسم معالمه الحديثة بظهور في عشرينيات القرن الماضي وسائل الإعلام الإلكترونية كالإذاعة والتلفزيون. وبذلك أصبح الجمهور غير محدد في المكان، حيث باعد البث الإذاعي والتلفزيوني بين أفراد الجمهور من جهة وبينهم وبين المرسل أو القائم بالاتصال من جهة أخرى، فظهر شكلان جديدان من أشكال الجمهور، هما المستمعون والمشاهدون الذين لم تعد الأمية والحواجز الطبيعية تحد من تعرضهم للرسائل الإعلامية، كما كان الشأن بالنسبة للصحافة المكتوبة. وتتميز المرحلة الرابعة بالعنصر التاريخي الرابع في اعتناق نظريات الديمقراطية السياسية التي تعتبر وسائل الإعلام وحريتها أحد أهم مظاهرها، فقد انعكس تطبيق الأفكار الديمقراطية في أنظمة الحكم على مهام ووظائف وسائل الإعلام وعلى الرقابة السياسية والاجتماعية ومبادئ الوصول إليها والمشاركة فيها، كما انعكس على وعي المجتمع ككل بأهمية الإعلام ودوره في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية. فلم يعد الجمهور مجرد مجموعة من قراء الصحف ومستمعي الإذاعات ومشاهدي قنوات التلفزيونية، وإنما في الوقت نفسه أصبح يتضمن ناخبين ومستهلكين للسلع والخدمات، حيث ظهرت مصطلحات لها علاقة وطيدة بتنوع الجمهور، مثل جمهور الناخبين "mass electorate " وجمهور السوق - المستهلكون "mass market "....إلخ. إن هذه المراحل الأربعة التي ذكرناها لا تعني أن تطور مفهوم الجمهور قد توقف عند هذا الحد وإنما لا تزال هناك تطورات في هذا المفهوم مع تطور تكنولوجيات الاتصال، حيث بدأت تظهر بعض المصطلحات التي ترتبط بتقنية الإنترنت، مثل جمهور الواب "web audience " و"ubiquitous audience " و "netizen "و "online audience " و "offline audience "وغيرها من المصطلحات.