13 سبتمبر 2025

تسجيل

العرب..والتخطيط لما بعد أوباما

24 أبريل 2016

كثُر الحديث منذ أسابيع في العالم العربي عن مقال "عقيدة أوباما" الذي كتبهُ الصحفي الأمريكي جيفري جولدبيرغ عنوانًا لمادةٍ مطولة نشرها في مجلة The Atlantic، استخلصها من أكثر من حوار أجراه مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. الظاهر أن الرئيس يحب إرسال رسائل تتعلق بالسياسة الخارجية، خاصةً مع العرب والمسلمين، من خلال حواراته مع هذا الصحفي. نذكر هذا لأن الرجل أجرى مع أوباما لقاءً آخر، في نفس المجلة، في مثل هذه الأيام منذ عامين كاملين، سيكون مفيدًا العودة إليه بسرعة لأن فيه عنصرًا هامًا يؤخذ بعين الاعتبار في دراسة مقاييس الرجل ومداخل تقويمه لمسائل السياسة الخارجية.فعندما سأله جولدبيرغ عن رأيه فيما إذا كان يرى خطورةً أكبر في التطرف السني أو التطرف الشيعي، طرح أوباما وجهة نظر لا يمكن الهروب من دلالاتها الإستراتيجية الخطيرة على مستوى الرؤية السياسية وعلى مستوى القرارات العملية التي يمكن أن تُبنى عليها. ذلك أن الرجل تهرب من الإجابة المباشرة على السؤال، لكنه أجاب عليه بطريقة معبرةٍ جدًا قال فيها: "ما سأقوله هو أنك إذا نظرت إلى السلوكيات الإيرانية فستجد أنها إستراتيجية، ولا تأتي على شكل ردود الأفعال. إن لديهم رؤية متكاملة للعالم، وهم يدركون مصالحهم، ويستجيبون لمعادلة الأرباح والخسائر..إنهم دولة كبيرة وقوية ترى نفسها كلاعب مهم على المسرح العالمي".التخطيط الإستراتيجي الحقيقي، البعيد عن ردود الأفعال، والمنبثق من المصالح، ومن امتلاك رؤيةٍ متكاملةٍ للعالم هو مدخل الفعل السياسي لمن يرى نفسه لاعبًا مهمًا على المسرح العالمي. لسببٍ ما، أعطانا الرئيس الأمريكي هذه (المحاضرة) بشكلٍ صريح، لكن مضمونها يبقى منسجمًا مع واقع العلاقات الدولية في عالم اليوم.رغم التحديات، يحاول العرب منذ عامٍ مضى، بقيادةٍ سعودية، بناء منظومة سياسيةٍ إقليمية وعالمية تتمحور حول ذلك العنصر تحديدًا. والمفارقة، أنه بعد عام من اليوم، حين يكون العرب ماضين في مواجهة التحديات، سيكون أوباما خارج البيت الأبيض يستمتع بتقاعده كرئيسٍ سابق. الأهم في الموضوع، كما تشير كثيرٌ من المعطيات، أن رؤية أوباما الخاصة للسياسة الخارجية، أو ما تبرعَ جولدبيرغ بصياغته كـ(عقيدة)، ستكون بدورها شيئًا من الماضي، لا تتجاوز علاقة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية به إلا كأرشيفٍ على أحد رفوف مكتبةٍ خاصة، تحوي متحفًا، تُبنى لكل رئيسٍ أمريكي بعد انتهاء ولايته (في الحقيقة، يعمل أوباما بحرص على تنفيذ الفكرة منذ زمن، وبتكلفة تتراوح بين 800 مليون إلى مليار دولار حسب مصادر حكومية، مقارنةً بـ300 مليون دولار، تكلفة متحف ومكتبة جورج بوش الابن) .من هنا، وخروجًا من ملابسات اللحظة الراهنة، وانسجامًا مع دلالات ما هو (إستراتيجي) في التخطيط والرؤية، يُضحي طبيعيًا تركيز التفكير في عناصر أخرى تساعد العرب على التعامل مع أمريكا بعد أوباما.يمكن الإشارة، بدايةً، إلى حقيقةٍ تتمثل في أن اختزال مداخل وقنوات العلاقة بين الطرفين في الجهات الرسمية والحكومية يصبح أحيانًا جزءًا من المشكلة. ذلك أن أي علاقةٍ صحية بين جماعتين حضاريتين ضخمتين بهذا الحجم والتأثير يجب أن تكون مبنيةً في جانبٍ أساسي منها على جهد ونشاط المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والأبحاث والمؤسسات التعليمية. أما الاقتصار على القنوات الرسمية لبناء العلاقة المذكورة فإنه سيُغيّب بالضرورة المرونة والحيوية المطلوبة لمثل هذه العمليات الحضارية. وسيؤدي في كثير من الأحيان إلى طرق مسدودة، أو إلى مآزق آنية مزعجة في حال حصول أحداث كبرى، كما جرى مثلًا بعد هجمات سبتمبر المعروفة.من الضرورة بمكان، ثانيًا، التأكيد على انتقال العلاقة بين الطرفين إلى درجةٍ أعلى من الندية، تقوم على الإدراك المتجدد لقوة وحجم الأوراق التي يملكها الطرف العربي، والخليجي بشكلٍ رئيس، في خضم عملية (التدافُع) التي تحكمُ مجال العلاقات الدولية. أما العامل الرئيس في الموضوع فيكمن في ظهور (الإرادة السياسية) لاستعمال تلك الأوراق، وفي التعبير عن تلك الإرادة عمليًا، وليس التلويح بها نظريًا فقط. وإذ نُدرك، كعرب، كل الحقائق المتعلقة بقوة أمريكا ودورها المحوري والقيادي في العالم، ونتعامل مع تلك الحقائق بعقلانيةٍ وموضوعية. لكننا ندرك أيضًا، بشكلٍ متزايد، أن ثمة ساحات ومداخل للتعامل الندي المذكور هي من صُلب طبيعة النظام الدولي، وفي مجال العلاقات مع أمريكا تحديدًا. المفارقةُ أن أمريكا نفسها تعرف هذه الحقيقة بكل وضوح، وتبني سياساتها الخارجية بناءً عليها. لهذا، يُصبح ساذجًا التفكيرُ بوجود تناقض بين إدراك دور أمريكا في العالم والإقرار به من جانب، وبين البحث على الدوام عن سياسات خلاقة ومُبتكرة تُمارسها الدول الأخرى للتعامل مع ذلك الواقع بما يُحقق مصالحها، من جانبٍ آخر.وأخيرًا، من الواضح أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أدركت، منذ بدء (عاصفة الحزم)، أن العاصفة المذكورة لا تتعلق باليمن فقط، بل بالمنطقة بأسرها. وأنها عاصفةٌ تهدف لإحداث نقلةٍ في العلاقة معها من كونها مجرد (إدارة) قائمة على الرؤية الأمريكية النمطية، لتصبح علاقة نديةً قائمةً على وجود (الإرادة): المرادف الأقرب لـ(حزمٍ) أحدث اختراقات في السياسات العربية غير مسبوقة، ولم تكن أمريكا، بحكومتها ومراكز دراساتها وأبحاثها، تتوقعُ حصولها. هكذا هي أمريكا، وهذه هي (واقعيتُها). يفرض (الواقع) نفسه عليها، فتركض لاستيعابه ومحاولة فهمه. وهو ما ستؤكده مؤسسة السياسة الخارجية بشكلٍ يختلف جذريًا عن رؤية رئيسٍ يحاول أن يترك لنفسه ذكرًا في التاريخ آخرَ أيامه في البيت الأبيض.في هذا الإطار، يأتي استمرار الحزم المذكور، بكل مساراته، خاصة في سوريا الآن، ليصبح أهم عاملٍ في إقناع تلك المؤسسة، المتشككة في رؤية أوباما وقراراته أصلًا، بضرورة بناء علاقةٍ إستراتيجية جديدة مع المنطقة، بواقعية، وبعيدًا عن أوهام المجد الشخصي على جدار الذكريات.