11 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); ثمة إشكالية دستورية وسياسية في آن معا، لا تبدو مبحثا أساسيا صلب القانون الدستوري، ولا ضمن العلوم السياسية: هل الدساتير هي التي تنشئ الحياة السياسية، أم أن المشهد السياسي بصراعات الأحزاب وجماعات الضغط واللوبيات المالية، ومكونات المجتمع المدني والحراك الشعبي، هو الذي يصنع الدساتير ويضع نصوصها؟ وإلى أي مدى سيحافظ الدستور والحياة السياسية على ذلك التناغم المأمول؟ إشكالية،،، حاول مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية في تونس طرحها على بساط النقاش مؤخرا، وسط جدل لم يحسم حول: من يصنع من؟ وهل تواجه الحياة السياسية في تونس، مشكل نصّ دستوري بدا للبعض غامضا و"حمال أوجه"، أم أن "دستور الثورة" يحمل إجابات وصياغات لمشكلات النخب في علاقة بممارساتهم السياسية، داخل الحكم ومن خارجه؟في الحقيقة لا تبدو هذه الإشكالية تونسية المنشأ.. فقد عانت إيطاليا من قطيعة بين نصها الدستوري وحياتها السياسية، بما أنتج ذلك الوجه الفاشي الذي طبع جزءا من تاريخها المعاصر.. وهو نفس الوضع الذي عرفته ألمانيا في الحقبة الهتلرية، عندما ارتدت إلى نازية مقيتة..حتى في فرنسا العريقة ديمقراطيا وحقوقيا، وجدت طبقتها السياسية نفسها في مواجهة مشكل "التعايش" بين اليمين واليسار صلب الحكم، على عهد شيراك وجوسبان، منتصف تسعينيات القرن المنقضي.. وهي معادلة لم يتحدث عنها الدستور الفرنسي، ذو النظام الرئاسي، لكن إرادة الناخبين، فرضت هذا الخيار على الطبقة السياسية الفرنسية، وطوّعت النص لهضم واقع جديد..أما في السياق العربي الحديث، فالأمثلة كثيرة عن ارتدادات وحالات نكوص، وانقلابات فاضحة على هواجس دول "الاستقلال الوطني" بتعدد تسمياتها وتجاربها.. سياقات الصراعلا شك أن دستور جانفي 2014 في تونس، صيغ في ظروف غير مسبوقة تاريخيا.. كان ثمة دم سياسي سال، واحتجاجات واعتصامات وإضرابات ومحاولات انقلابية حيكت، و"إرهاب مصنّع" من الداخل والخارج، يتحرك بين الجميع ويؤشر لحرب أهلية، كانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى.. فيما المجلس الوطني التأسيسي، كان يناقش ويجادل ويكتب هذا النص، تحت وقع تجاذبات وصراعات، ظاهرها سياسي، وباطنها إيديولوجي عقائدي، وغلافها حقوقي، وسياقاتها وطنية مشحونة ببعد إقليمي مركّب ومعقّد..عكس هذا النص الدستوري حينئذ، صراعات مرحلة، لكنه ترجم كذلك هواجس النخبة وجزءا هاما من تطلعات الطبقة السياسية، التي حرصت على وضع مخاوفها المختلفة والمتناقضة أحيانا في نصّ الدستور..فالمعارضة، عملت على محاصرة "الترويكا" الحاكمة بقيادة حزب النهضة، من خلال "فرملة" ما كانت تسميه "تغولا في الحكم".. وحركة النهضة وحليفاها في الحكم، الذين كانوا يراهنون على النظام البرلماني، حرصوا على تضييق الخناق على صلاحيات رئيس الجمهورية، وعلى تحجيم دور المعارضة، ونتف كل ما أمكن من أجنحتها..كلاهما حرص على إدراج "شهوته" في الدستور، بالشكل الذي يضمن مصالحه ووجوده ودوره، في حرب مواقع كادت أن تأتي على الأخضر واليابس برمته.. لا أحد منهما فكر في تغير موقعه، أو في إمكانية أن ينزاح النظام السياسي التونسي باتجاه استبداد جديد، أو أن تجد المعارضة نفسها بلا هامش أو مساحة تسمح لها بأن تنظم فعل الرفض والمعارضة أصلا..هكذا كان الدستور الجديد، ترجمة لصراعات سياسية وحزبية، وتصفية لمعارك إيديولوجية قديمة، ردمها النظام المخلوع لعقدين من الزمن، وجاءت ثورة 14 يناير لكي تعيدها إلى سطح الصراع الفكري والسياسي، مع تلك الرغبة الجامحة في الوصول إلى السلطة، التي كان كل طرف يرى في نفسه الأقدر على أن يكون على رأسها..نحو النظام الرئاسي..الإشكال الذي تواجهه النخبة التونسية اليوم، هي مخرجات الانتخابات الماضية بشقيها التشريعي والرئاسي.. فقد أفرزت هذه الاستحقاقات، طرفا سياسيا أساسيا في الحكم، هو حزب نداء تونس، الذي يصفه البعض بـ "الجهاز المرسكل للنظام القديم".. لقد أصبح هذا الحزب في الرئاسات الثلاث: القصر الجمهوري ورئاستي الحكومة والبرلمان، وبالتالي ففرضيات الصراع بين السلطة التنفيذية والبرلمان، والتي استخدمت الأطراف السياسية بيمينها ويسارها، جميع الأدوات لتكريسها في الدستور، لم تعد متوفرة، بما يجعل السؤال الأهم مطروحا بقوة: هل دخلت تونس طور النظام الرئاسي، خصوصا مع وجود الباجي قايد السبسي، على رأس الدولة، وهو المشبع بثقافة النظام الرئاسي وسياقاته المختلفة؟ وإذا ما كان الحبيب الصيد، رئيس الحكومة الحالي، مجرد أداة تنفيذية ـ كما يردد البعض ـ فهل تنزلق التجربة مجددا إلى النظام الرئاسي؟ وهنا يطرح أمامنا السؤال المؤرق فعلا: هل تونس تعيش "في نظام هجين لا يشبه شيئا"، كما ذهب إلى ذلك جوهر بن مبارك، أحد أساتذة القانون الدستوري؟ لا أحد في تونس يمكن أن يشك لحظة في أن المسار في غير الوجهة التي طمح إليها التونسيون بثورتهم، خصوصا أمام مشاريع القوانين التي مررتها الحكومة إلى البرلمان، و"التعلميات" الصادرة عن السلطة التنفيذية في علاقة بقضم الحريات، وعودة الأمن إلى سطوته الماضية، بل استئناف الميكانيزمات القديمة في العمل من جديد، وكأن البلاد لم تعرف ثورة، ولم تشهد زلزالا ذات 14 يناير 2011 ! هل نحن بإزاء ردّة سياسية تلبس قناع "الانتقال الديمقراطي"، أم هو مخاض تسوية كتبت أحرفها قوى إقليمية ودولية، ورفعت لواءها "قوى" داخلية بأمانة وبدم بارد أحيانا ؟في كل الأحوال، يبدو النص الدستوري، بل حتى النظام السياسي الذي تمخض عنه، في منطقة "الأوف سايد" حاليا، وسط مخاوف يطلقها كثيرون، من قلب الحزب الحاكم قبل المعارضة، بوجود مؤشرات لعودة الحياة السياسية إلى نقطة الصفر، نقطة ما قبل سقوط رأس النظام السابق، خصوصا أمام نكوص الإعلام على عقبيه، وتراجع حراك المجتمع المدني، وصمت المعارضة التي تشهد بداية تآكل رصيدها، بفعل عوامل كثيرة ليس هنا مجال عرضها..هل تشهد تونس حقيقة، لحظة "فكّ ارتباط" أو قطيعة بين النص الدستوري وواقع سياسي جديد، أبرز علاماته، إمكانية عودة الاستبداد بأدوات وعناوين وأسماء "ديمقراطية" أو هكذا تقدم نفسها؟للأسف،،، مؤشرات عديدة تصبّ في هذا الاتجاه وتدعمه يوما بعد يوم.. والذريعة، بل الذرائع موجودة ومتوفرة وعلى قارعة الطريق، ما يجعل "دستور الثورة" رقما خارج المعادلة السياسية الراهنة تماما..