16 سبتمبر 2025
تسجيلإن إصابة الإنسان بالمرض النفسي لا تعني بالضرورة قيامه بالسلوك الإجرامي أو العدواني وبالتالي لا تعني تنصله من المسؤولية القضائية أو الجنائية، إذ إن المرض ـ الاضطراب النفسي ـ أشكال وأنواع ودرجات وحالات كذلك، وأعني بحالات أن الشخص قد يكون مصاباً بعلة نفسية ولكنه عند ارتكاب السلوك الإجرامي ـ إن جاز التعبير ـ لا يكون تحت تأثير الاضطراب النفسي أو أعراضه، ولعل من المناسب في هذا المقال أن آتي على تقسيمات الأمراض النفسية ـ الأساسية ـ وحدود تأثيرها على سلوك المريض النفسي. أول هذه الأنواع هو الأمراض النفسية العصابية، وفي الغالب يظل المصابون بهذه الاضطرابات على درجة عالية من التماسك في سمات الشخصية وهم على دراية بأفعالهم وسلوكهم. ويكون الاضطراب في جزئية محددة لا تصل لحد ارتكاب الجرائم خارج دائرة الوعي والإدراك. ولابد عند إتيان المصاب بهذا النوع من المرض النفسي بأي سلوك منافٍ للعرف والشرع والتقاليد العامة أن يخضع للتقييم العيادي من قبل المختصين في الطب النفسي الشرعي وعلم النفس لتحديد مدى تأثير اضطرابه على سلوكه. أما النوع الثاني فهو الأمراض النفسية الذهانية ويعاني المصاب بها في الغالب من اختلال في البصيرة وفي الإدراك وقد تتغير الشخصية هنا بشكل جذري، ويتميز سلوك المريض بالاندفاع والتجاوب مع ما يسمى (الهلاوس والضلالات) مما يدفع المصاب للإتيان بسلوك ـ أحياناًـ في ظاهره يبدو إجرامياً لكنه في حقيقته مرضي يستوجب العلاج، وما يحدد ذلك السلوك وأبعاده وآثاره هو التقييم والتشخيص العيادي من قبل المختصين. وثالث هذه الأنواع هو اضطرابات الشخصية، وهي عبارة عن خلل في أحد سمات الفرد أو بعضها مما يؤثر على سلوكه وأفكاره وانفعالاته وأسلوب تعامله مع الآخرين، وتختلف الأعراض في شكلها وحدتها وأثرها على حسب نوع الاضطراب، وليس بالضرورة أن يرتبط اضطراب الشخصية بالسلوكيات الإجرامية. لأن المصاب باضطراب الشخصية في داخلة معاناة نفسية حقيقة وألم مترسب. إلا أن الأمر ليس كذلك في بعض أشكال هذه الاضطرابات مثل اضطراب ما يعرف بالشخصية السيكوباتية ـ الشخصية المضادة للمجتمع ـ والتي تقترف الجرائم باندفاعية وإصرار دون أدنى شعور بالمسؤولية أو الذنب. ويتراوح اضطراب السمات مابين الانطواء وعدم ثبات المزاج والاندفاعية والتشكيك في الآخرين والخروج على التقاليد الاجتماعية، كما تتأرجح الآثار السلبية لسمات الشخصية المضطربة بين إيذاء الذات وبين إيذاء الآخرين وارتكاب الجرائم بكل أشكالها بما فيها الجرائم الأخلاقية. ويعتبر المصاب بأحد أشكال اضطرابات الشخصية على درجة مقبولة من الوعي والإدراك التي تجعله مسؤولاً عن سلوكياته بشكل عام، ومع ذلك يفضل الحكم على أي سلوك غير متكيف وخارج عن ضوابط المجتمع بعد إجراء الفحوصات النفسية اللازمة من قبل المختصين في الطب النفسي الشرعي وعلم النفس لتحديد دور المرض النفسي في السلوك غير التوافقي الذي أقدم عليه هذا الإنسان. إن مشكلة المريض النفسي لا تقتصر على أعراض مرضه النفسي فقط وإنما هي قضية مجتمعية، فليس كل مريض نفسي يتلقى ما يحتاجه أو يستحقه من رعاية أسرية واجتماعية تحميه من نفسه وتحمي المجتمع منه. إن مشكلة ادعاء المرض النفسي وجعله مفسراً ومبرراً لبعض الجرائم للتنصل من القضاء مشكلة لها أبعاد متشعبة أهمها الخلط بين المريض النفسي ومدمني المخدرات وأصحاب السلوكيات المنحرفة، وكذلك محدودية الوعي بمعنى المرض النفسي وأشكاله وأنواعه من قبل المسؤولين عن البت في أمور القضاء بالإضافة إلى الجهل بالآثار السلبية والممتدة لارتكاب الجريمة وتكرارها والتهاون بها. وتبقى دوافع الجريمة لدى مرتكبيها مختلفة وتفسر ضمن نطاق السلوك الإجرامي غير المرضي بالضرورة، ولكن الإتيان بسلوك إجرامي بوعي تام والتخفي وراء أعراض المرض النفسي جريمة مركبة أخرى تستوجب سرعة التعامل معها وفق الضوابط والقوانين الشرعية. إن السلوك الإجرامي التخريبي يهتك بأعراف المجتمع ويسهم في تسيد الانحرافات والتجاوزات الأخلاقية والدينية. ومهما كانت دوافعه الشخصية فلا يعقل تجاهله أو التهاون في التعامل مع مرتكبيه لذلك كان الإدراك الواعي من قبل المسؤولين بالتمييز بين الإجرام والمرض مطلب مجتمعي وإنساني لتحجيم الجريمة والحد من آثارها السلبية المدمرة للناس والمجتمعات.