16 سبتمبر 2025
تسجيلنهاية العام 1994 خرجتُ على القذافي ونظامه انحيازا لضمير المثقف الأخلاقي. انضممت إلى المعارضة الليبية المتنافية في الخارج بين أوروبا وأمريكا. كانت معظم أطياف المعارضة في الخارج، تنظيمات وشخصيات مستقلة، لا ترى مستقبلا حقيقياً لليبيا في الحرية والديمقراطية إلا بعد الخلاص من القذافي ونظامه. إلى أن أظهر القذافي ابنه سيف الإسلام لأداء دور الابن الصالح المصلح. وقُدِّم كأنه منّة من "القائد" لقيادة الشباب إلى "ليبيا الغد". نزل سيف ابن أبيه إلى ملعب التوريث بميزانية مفتوحة وشعارات انفتاحية فضفاضة ووعود خلابة. كنتُ ضمن الموقف الجذري للمعارضة الليبية، في الخارج، الرافض بشدة الانجرار وراء خديعة إصلاح نظام القذافي من داخله. وأن تسويق الابن "المصلح" ليس سوى أضلولة لبيع الأوهام في سوق التوريث. لكن أوراق صفراء في الأغصان الهشة لجذع المعارضة السنديانية الصلبة تساقطت في حجر ابن أبيه. وكان في طليعة المتساقطين جماعة "الإخوان ـ فرع ليبيا" مع شخصيات من بقايا المعارضين اليساريين المتحولين إلى ليبراليين جدد وإليهم تجار ورجال أعمال ممن عارضوا القذافي فقط لأنه صادر أموالهم. وفي سبيل شق صف المعارضة في الخارج، واستدراج من يمكن استدراجه للعودة إلى حظيرة النظام تائباً نادما، ابتكر نظام القذافي، تحت رعاية ابن أبيه، هيئة رسمية خاصة بالاتصال بالمعارضين سماها "شؤون الهجرة والمغتربين باللجنة الشعبية الليبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون الدولي" عيّن على رأسها معارضا عائدا تائبا نادما وهو علي الريشي. وبمغريات المال و"الصفح عند المقدرة" عاد عديد "المعارضين" إلى "جماهيرية القذافي" مندمجين في جوقة المروجين لمشروع ابن أبيه "الإصلاحي"، واصفين بقية المعارضين الجذريين، المتمسكين بضرورة إسقاط النظام، بأنهم شعارتيون أصحاب خطاب خشبي ولا يفهمون في التكتيك السياسي.. ولم يكن من المجدي مجادلتهم بأن معارضة القذافي ليست موقفا سياسيا وإنما هي حركة مقاومة لا تعرف اليأس أو المساومة في مواجهة طاغية كالقذافي يحكم ليبيا بمنطق القوة الباطشة حيث السياسة، عنده، من ساس الدواب. وفيما كان كل الليبيين تقريباً، بمن فيهم المقربون جداً إلى "القائد" الذي "لا يحكم!"، على إدراك جلي جلاء الشمس أن الابن يؤدي دورا مرسوما بمعرفة الأب، أنخرط أرهاط معارضي الخارج من أولئك العائدين التائبين نادمين إلى خظيرة "العقيد" في تزيين مشروع ابن أبيه "الإصلاحي" مطبلين ومزمرين لابن "القائد" "المعجزة"، متفاخرين بأن مناصرتهم لمشروع ابن الطاغية أنتج إطلاق سراح مساجين سياسيين بوساطة من الشيخ الصلابي أبرز شيوخ "الإخوان المسلمين ـ فرع ليبيا" ومعه نعمان بن عثمان القيادي السابق في "الجماعة الليبية المقاتلة" ـ مقيم في لندن ـ في أفغانستان قبل أن يكفر ببن لادن والقاعدة ليصير كبير المحللين في مؤسسة Quilliam البريطانية لمكافحة الإرهاب. وهكذا صعد ابن أبيه إلى مسرح التوريث في صخب دعائي: مالاً ووعودا. ولم يكن ينقصه إلا الدعاء له في الجوامع بعد الدعاء لوالده الحاكم بأمر هواه. كما انخرط في مشروع الابن "الإصلاحي" نخب (مثقفون ونشطاء حقوقيون) من الداخل مستغلين، ما أتاحته سياسة تلميع الابن الوريث من هامش، كيفما كانت ضآلة مساحته، لتفعيل حراكهم الثقافي ـ المجتمعي، وذلك من حقهم، كونهم يناضلون داخل فم الوحش وبالتالي كل ما يتيح لهم حركة وصوتا يُعتبر مكسباً، عكس معارضي الخارج الذين ينبغي أن يتمسكوا بموقفهم الجذري الذي يعكس موقف شعبهم في رفض مساومة النظام أو محاورته ما بالك مصالحته. إذ أن لا حرية للشعب الليبي إلا بعد التحرر التام من تسلط القذافي ونظامه. 2 عندما أعلن شباب ليبيا عبر صفحات الفيس بوك عن نيتهم نزول الحالة الثورية في ليبيا يوم 17 فبراير سخر أعوان النظام ومبايعو سيف الإسلام من مخلفات المعارضين العائدين تائبين نادمين. لكنهم سرعان ما لحسوا سخريتهم عندما أصبحت ثورة 17 فبراير حقيقة ساطعة على الأرض بفعل شبيبة ليبيا الذين انتزعوا بصدورهم العارية على درب من دماء الشهداء والجرحى الأسلحة من أيدي قتلتهم ليحرروا بها مدن المنطقة الشرقية وقراها من سلطة القذافي في أيام معدودة. وإليها الزنتان والزاوية ومصراتة. عندها كما تقفز الجرذان من السفينة الغارقة قفز الانتهازيون من مولاة النظام إلى نصرة الثوار. وهي حالة معروفة في تاريخ الثورات. وقد حدثت في الثورة التونسية والثورة المصرية... وها نراها في الثورة الليبية وعلى نحو أكثر وقاحة. بحيث إن عديدا كبيرا من الذين يظهرون على شاشات الفضائيات العربية بتعريفات مختلفة: نشطاء سياسيون معارضون ونشطاء حقوقيون معارضون وإعلاميون معارضون وشيوخ دين معارضون ألخ صفات المعارضين، كانوا، في معظمهم، إما من أحبة مشروع سيف الإسلام الإصلاحي وإما من الصامتين المختفين في المنافي الغربية.... هذا هو خوفي الحقيقي على ليبيا. الخوف من أن ثورة 17 فبراير، التي هي ثورة شبيبة ليبيا، يسرقها الانتهازيون من المعارضين التائبين على يد ابن أبيه والمنشقين عن النظام في اللحظات الأخيرة. ولا أقصد هنا المجلس الوطني الانتقالي برئاسة القاضي الشريف مصطفى عبدالجليل وإليه بقية الأعضاء. ولا أقصد الموقف المفصلي المشرف الذي اتخذه عبدالرحمن شلقم في مجلس الأمن وكان بمثابة ضربة صميمية طاعنة في قلب شرعية نظام القذافي الدولية.. لكني أقصد بوضوح معارضي الخارج، من إسلاميين، ويساريين تحولوا إلى ليبراليين، وبقايا سياسيين ورجال أعمال ملكيين، ونشطاء حقوق إنسان، ممن كانوا حتى اللحظات الأخيرة يراهنون على ابن أبيه "المصلح العبقري" والقيّم "الرقيق" على "حقوق الإنسان" في ليبيا.. ثم ها نشاهدهم في الجزيرة وغيرها يتنطعون في المزايدة على العداء للقذافي ونظامه. بل ويبرّزون أنفسهم لقيادة ليبيا المستقبل. واليوم، في أواخر شهر مارس العام 2011، يمضي ثوار 17 فبراير إلى هدفهم المنشود، منتفعين بالتدخل العسكري الجوي بقوة القرار الدولي، نحو لحظة الخلاص من القذافي ونظامه تماما كشرط شارط لبناء دولة ليبيا الحديثة في استقلالها الثاني.. عندها على المجلس الوطني مشكورا أن يسلم مقاليد سلطة الأمر الواقع إلى القادة الفعليين لثوار 17 فبراير، وعلى جميع الانتهازيين أن يختفوا من المشهد. فلن تبنى ليبيا الجديدة ـ الحديثة إلا بقيادة شبابها الذين هاجموا مقرات قوات الأمن: في طبرق ودرنة والقبة والقيبب والأبرق وشحات والبيضاء والمرج وبنغازي وأجدابيا ومصراتة والزنتان والزاوية وجبل الأمازيغ..... أي أن شرعية حكم ليبيا المستقبل سوف تكون خاضعة لشرعية ثوار 17 فبراير الذين هم الآن في ساح القتال تاركين الواجهة السياسية للمجلس الوطني الانتقالي والذي عليه أن يسلم (مشكوراً) مهام إدارة البلاد، بعد القضاء على القذافي ونظامه، إلى أصحابها الثورة الحقيقيين: شبيبة الصدور العارية. [email protected]