14 سبتمبر 2025
تسجيللا بد من فهم وتحليل هذه الانقلابة الكبرى التي تتفاعل الآن في أكثر من بؤرة في أوطاننا وتتحضر على أكثر من أرض في بلادنا.. هذه الانقلابة تقوم على ثلاثة أسباب لم يفهمها القذافي ومن قبله حسني وابن علي ويبدو أن آخرين على شاكلتهم لا يزالون أقصر وأقل من أن يرصدوها أو يتعاملوا معها ؛ الأول هو: أن ما تعانيه الأمة في مجموعها العام وعلى مستوى كل دولة في القضايا الكبرى والخط الاستراتيجي والسياسات الخارجية التي تتردى في المزيد من التدهور يوما بعد يوم سببه ليس العجز ولا نقص الموارد المادية أو المعنوية ولا هي أسباب موضوعية.. ولكنه طبيعة النظم المتخلفة في إدارتها ومفاهيمها والفساد المستشري في أركانها وعدم وجود آليات صحيحة للتداول السياسي واتخاذ القرارات.. وعليه فلم يعد مقبولا أن تزيف إرادة الشعوب أو تفرض عليها المواقف لمجرد أن النظام يريدها حتى لو كان النظام المسيطر في قمة الوطنية والثورية والإخلاص الوطني فكيف إذا كان مجرد ظاهرة صوتية أو ملابسية أو شعاراتية كما القذافي!؟ وكيف إذا كان خائنا عميلا للعدو وفاسدا ومفسدا كما نظام حسني وابن علي!؟ السبب الثاني: هو أن الشعوب اكتشفت – وبالأخص بعد الثورتين التونسية والمصرية - قدرتها على التغيير وفي أيام قلائل ما تراكم عليها من عفونات في عقود وربما في قرون.. السبب الثالث: الفهم المغلوط للاستقلال الوطني والعزل القسري وغير الموضوعي بين شعوب الأمة ماديا ومعنويا الذي تمارسه بعض النظم بالأخص وشعوبنا ترى العسف الصهيوني والتعالي الأمريكي وسيلان الدماء العربية والإسلامية وانفراد العدو بكل دولة من دولنا ونظمنا التي صارت تفتقد الحد الأدنى من الدفاع المشترك بل التنسيق المشترك والحد الأدنى من الاحترام العالمي.. هذه الأسباب الثلاث هي ما ميز النظم الثلاث التي بدأت الثورة بها، وهو ما لم تلتفت له بالذات تلك النظم التي انكفأت على الهم الداخلي أو دخلت في ولاءات وتعاونات خارج قومية وخارج وطنية.. نعم لقد اكتشفت الشعوب أنها المحرك والمتحرك وأنها المفيد والمستفيد وأن كل ما سوى ذلك هو تبع أو رجع صدى.. فلم تعد هي تلك الشعوب الساذجة والبسيطة التي يكاد اهتمامها يتمحور حول رغيف الخبز وعشرات الأمتار لبناء مسكن العمر أو قبر الممات.. لقد انفتح العالم على مصراعيه أمامها وباتت تتواصل مع العالم كله فرديا وشعبيا وطلابيا ونخبويا وفي كل المجالات حتى في الهوايات والملهيات.. لقد تجاوز مقياس التفوق والإحساس بالحرية لدى شعوبنا وشبابنا حدود الاستقلال الوطني لأية دولة.. فتقاربت ثقافة الاستقلال والحرية وزاد من حدة وموضوعية هذا الاكتشاف التهديدات الصهيونية وتبدد الآمال بحل لقضية فلسطين التي شكلت في العقل الجمعي للأمة وعبر عقود طويلة وثقافة ممتدة القضية الأولى والمقدمة حتى على الهم الداخلي لكل دولة.. ذلك صنع ثورة في كل نفس وبالتوازي في كل دولة ولدى كل شعب من شعوبنا.. وذلك لم يفهمه القذافي وأبناؤه ونظامه.. وهو ما يبدو أن نظما أخرى سيأتي عليها الدور بقدر ما لا تزال تفهمه أو تلك التي ترقع المواقف وتحاول شراءه بتغييرات هامشية في وجوه الاستبداد والفساد وبوعود محاربة البطالة وبزيادة الصرف على ترفيه المواطنين.. فإذا خصصنا الحديث عن القذافي فهو – وكما أثبتت الأيام الماضية – يظن أنه لا يزال ذلك القذافي لدى الليبيين في الستينيات حيث استولى عسكري برتبة عقيد على حكم بلاد مديدة عديدة ممتطيا الخطاب العروبي ومتواريا تحت جناح ثورة يوليو - عبدالناصر - ومدغدغا حلم تحرير فلسطين، وإذ كان يصدق الناس شعارات " جوع يا سمك " و " حنوأع إسرائيل في البحر " التي كان لها صداها في إتْباع وإخضاع الجماهير وفي وصم المعارضين بالعمالة والخيانة وثم استباحة دمائهم وتخويفهم.. القذافي – هذا المأساة المسلية - نسي أن الشعوب كفرت بكل الخطابات العنترية التي كلما علا زعيقها كان ما تخفيه من الخيانة والعجز أكبر، ونسي أن للأمة عقلية جمعية تختزن المواقف وتحاسب عليها، ونسي أن المقاومة في لبنان وفي فلسطين اللتين لم تنالا منه إلا الكلام وأحيانا لم تنالاه قد سطرتا أمجادا لا تدركها ذهنيا لجانه الثوريه فضلا عن أن تقارنها أو تقاربها.. القذافي وأبناؤه ونظامه لم يتنبهوا إلى أن كل ما حولهم قد تغير، وأن شعبهم يقرر في الشوارع وفي مراكز المدن وفي مواقع ثقل الحضارة الليبية وفي الجامعات وفي مواقع التواصل العالمي الإعلامية والإلكترونية الحقائق على أرض الواقع ؛ في الوقت الذي ينشغل هو وابنه بالسب والقذف والتهديد ويتقيآن أمراضهما النفسية. لقد مرت سنون وسنون على الأمة تقلبت فيها على جمر البعاد عن الدين كعقيدة وكسلوك، وعلى تيه الانفكاك القومي والسياسي، وعلى هوان الهزيمة المادية والمعنوية والجهل والأمية في حين أنها أمة (إقرأ) وأمة (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب)، ومرت أزمان وأزمان على الأمة هانت في نظر نفسها وهانت في نظر عدوها حتى جاملت وداهنت وانحكمت لزبالات الأمم الصهاينة، وحتى وصل الحال أن يقف " المعتوه الأحمق " والإرهابي المتطرف " جورج بوش الابن " ليرسم لها سبيل الرشاد وليصف لها قوارب النجاة ؛ وهي أمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، ومضى حين من الدهر على الأمة تفكك فيه كيانها أشتاتا إلى ست وخمسين دولة لكل منها علمه وزعيمه وجيشه ورموزه وإشكالاته وتبعثرت أو بعثرت قوتها وكينونتها شذر مذر وصارت وحدتها كسورا عشرية ومئوية في حساب الآخرين ؛ وهي أمة (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).. أليس قد خسرت وفقرت وعمتها البطالة والعوز وهي أمة البترول والمناخات وأمة النيل ودجلة والفرات وأمة مئات الآلاف من العقول " المهاجرة " وعشرات ملايين الكيلو مترات من الأراضي الزراعية؟ آخر القول: لقد أثبتت الثورات الثلاث (التونسية والمصرية ثم الليبية) حقائق كثيرة وقدمت من العبر وكشفت من الحقائق وأعطت من المفاهيم ما سيبقى ميدانا للكتاب والمفكرين والمؤرخين والسياسيين والنخب والباحثين يدورون حوله ويستنبطون منه وما سيغير صورة الحالة العربية وبالتبع منها الإسلامية التي ترسخت منذ قرن بل عدة قرون المتأخرة في تاريخ الأمة، وما سيغير الصورة من السلبية إلى الإيجابية ومن الجمود إلى الفاعلية ومن الخنوع وقابلية الهزيمة إلى العزة والنصر.. حقائق كثيرة ستكشفها الأحداث وآفاق واسعة ستفتحها الثورات وخبايا لا تنتهي ستفضحها الأيام.. فنحن في أيام يصنع فيها تاريخ جديد للأمة.. سنعيش بعضه وأبناؤنا وأحفادنا سيعيشونه ويتنعمون به لعقود وربما لقرون آتية..