11 سبتمبر 2025

تسجيل

دراويش غزة والنظام العالمي

24 يناير 2024

من مصائب التاريخ الذي كتبه «المنتصرون» برهانهم ضرورة سيطرتهم التاريخية ، جاء نتيجة تفوق ثقافتهم وحضارتهم. التفوق التقني والعسكري لم يكن ينطوي على تفوق الثقافة والمشروع الانساني ، وعليه لم تكن الغزوات الاوروبية والامريكية حول العالم والرد الهمجي سوى هدم وتخريب للقيم الثقافية العليا. التاريخ الشامل هو تاريخ الإمكانات البشرية المشتركة. والبحث عن الابعاد التي فقدها الانسان خلال فرص التاريخ المفقودة وإعادة غزوها. وليس بالامكان انتزاع جبرية المستقبل إلا إذا انتزعت جبرية التاريخ. وبرسم المجازر الاسرائيلية في غزة، وبشيء من الاسقاط للمقارنة، يقول الفيلسوف الراحل ”روجيه جارودي” اول احتكاك لي مع الاسلام كان برجال منه، أدين لهم بحياتي. الرابع من آذار/‏مارس سنة 1941 كنا زهاء خمسمائة معتقل لمقاومتنا الهتلرية. هجرنا الى معسكر الاعتقال في الجزائر، وقد اثار عصياننا قائد المعسكر الفرنسي وأنذرنا بإطلاق النار علينا وعندما مضينا أمر حاملي الرشاشات، وكانوا جزائريين، بإطلاق النار فرفضوا، ومع تهديده لهم ظلوا لا يستجيبون وأجدني حياً الى الان بفضل هؤلاء المسلمين وقد اوضحوا لنا سبب ذلك: إن ما ينافي شرف محارب مسلم من الجنوب أن يطلق رجل مسلح النار على رجل أعزل، هذه التجربة اخذتني لدراسة الاسلام واعتناقه. الغرب عارض طارئ ، في اعتباره الفرد مركز الاشياء ومقياسها، وفي ارجاعه الواقع الى المفهوم، أي في الرقي بالعلم وبالتقنيات من حيث هي وسائل، مداولة الاشياء والناس الى مصاف القيم العليا، إنه طراز استثناء ضئيل في الملحمة الانسانية لثلاثة ملايين سنة خلت وأن عصر النهضة، وهو ليس حركة ثقافية وحسب بل ولادة مواكبة انجبت الرأسمالية والاستعمار قد هدم حضارات اسمى من حضارات الغرب باعتبار علاقات الانسان فيها بالطبيعة وبالمجتمع وبالإلهي بدل ان تكون ذروة النزعة الانسانية. لم يبق عصر النهضة “معجزة” كما لم تبق ثمة “معجزة يونانية”. وإن خلق مجتمع تسوده المنافسة وخصومة الناس بعضهم مع بعض في إطار ”السوق” قد أدى الى عقائدية (= إيديولوجيا) تبرر الممارسة حتى عند صنائعها في المنطقة وتحول التصور السابق لعلاقة الانسان بالطبيعة وعلاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالله. إن علاقة الانسان بالطبيعة فيها: عرش وعريش ونعش، شعار الحضارة الجديدة ، بدماغك القوي، صر إلهاً..سيد العناصر!.هذا الشعار سبق بنصف قرن وعد (ديكارت) بعلم يجعل الغربيين سادة الطبيعة ومالكيها بتوجيه موضوعات:1- رجحان الفعل والعمل باعتباره قيمة اساسية.2- رجحان جانب العقل. وكلتاهما تؤلف ديانة وسائل، إن العلمية والتكنوقراطية تطرحان دائماً سؤالا: كيف؟ وليس لماذا؟. هذا التصور «الابراهيمي الجديد» الوحيد البعد المخادع؛ يحيل الفكر الى الذكاء وحده،لا مجال فيه للحب والايمان والمشاعر وتشاطر الانفعالات الانسانية جوهر الوجود، وقد نميز مراحل اساسية ثلاثا في تاريخ البشرية مرحلة تتجاوز فيها قدرة الطبيعة قدرة الانسان فيها يقاتل الانسان للبقاء ومرحلة تجاوز قدرة الانسان قدرة الطبيعة، واخيراً المرحلة التي نعيشها منذ منتصف القرن العشرين وفيها تجاوز قدرة الانسان طاقة الانسان،لا يعرف فيها تحديد الغايات الحقيقية ولا السيطرة على الوسائل؟”. إن حضارة تقوم على هذه الموضوعات الثلاثة:- تحيل الانسان الى العمل والاستهلاك- تحيل الفكر الى الذكاء- تحيل اللانهائي الى الحكم إنها حضارة مؤهلة للانتحار، انتحار لفقدان الهدف والإفراط في الوسائل. وعلى هذا النحو ولدت الثروات العظمى للمشاريع الرأسمالية في الوحل والدم. وبرسم من يريدون القضاء على التنوع في الشرق من متشددين ودكتاتوريين ومستعربين ومستعمرين. فليعلموا ان ما يطلقون عليه “غزوة اسبانيا” لم يكن غزواً عسكرياً، لقد كان عدد سكان اسبانيا في ذلك الحين زهاء عشرة ملايين نسمة ولم يزد عدد الفرسان العرب في الارض الاسبانية البتة على سبعين الفاً، وإنما لعب التفوق الحضاري دوراً حاسماً، فقد جلب العرب معهم نموذجاً حياتياً انسانياً حضارياً ونظاماً اجتماعياً أعلى جداً من النظام الراهن، وسرعان ما ظهروا بمظهر محررين، أولاً بإنقاذهم (الأقنان) من وصاية ملوك (الفيريغوط) في عصر انحطاطهم ثم وقد اقام العرب في بلد تمزقه الفوضى الاقطاعية، أجمل منشآت الري التي عرفها العصر إن الحضارة التي أقامها العرب تنبع من مصادر أصيلة وعندما رحل الراهب الفرنسي (جربير) للدراسة في جامعة (قرطبة) قفل عائداً وقد بلغ من العلم مبلغاً صار يتهم من أجله بأنه تاجر مع الشيطان! وبعدئذ أصبح (البابا) باسم (سلفستر الثاني). يتبع: