25 سبتمبر 2025
تسجيلالتقيتُ عقب كأس العالم 2022 بعدد كبيرٍ من الأصدقاء من دولٍ مختلفة ومن اتّجاهات فكريّة شتّى، وكلّهم يُجمعون على أنّ ما عاشوه أثناء المونديال هو نوع من الحلم، الذي لا يقبلُ التصديق لولا أنّهم كانوا متابعين لمجريات هذا الحدث التاريخي الذي نجحت في تنظيمه دولة قطر باقتدار وباعتراف عالمي. وبقدر ما كنتُ أُسَرُّ بهذا الانطباع العام الذي يترجمُ الدهشة المتواصلة والإعجاب اللامتناهي، فإنّني كنتُ أقلقُ من ربط هذا الحدث الواقعي بهالة ما هو خيالي من شدّة الرّوعة والرفعة التي سارت عليها تفاصيل المونديال، لأنّ هذه الصّورة التي ظلت في الأذهان ينبغي أن لا تستقرّ فقط في الجانبِ العجائبي من الذاكرة وإنّما ينبغي لها أن تستقرّ في العقل وأن يشملها التوثيق كي لا تتحوّل مع الزمن إلى حكاية حالمة أو أسطورةٍ تتناقلها الأجيال فحسب. إنّ ما حدث في المونديال هو أمرٌ جليلٌ، فقد نحج البلد الصّغير العربي المسلم في كسب التحدي العالمي، وإنّنا ما نزال إلى اليوم مأخوذين بهذا الإعجاز، ورغم حلاوة التذكر واستعادة كلّ اللحظات والمشاهدات والمباريات والأحداث الرائعة عن الحوار الإنساني المتجاوز للرياضة إلى أبعاد قيميّة واسعة يسودها الاحترام وتبادل الثقافات، فإنّ ما نحتاجه اليوم، ولأجل استثمار كلّ تلك المكتسبات، هو توثيق كلّ مجريات كأس العالم بجوانبها الرياضيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، حتّى تكون "مدوّنة كأس العالم" منبعا للاعتبار للأجيال وتجربة وطنيّة وعربيّة وعالميّة يمكن الاستفادة منها في مستقبل العلاقات الدوليّة. الأمم تفكّر في ذاكرتها لا يُمكن للأمم أن تحفظ ذاكرتها دون أن تفكّر في تاريخها، ولا يصنع هذا التاريخ خارج عمليات التوثيق المختلفة، فمنذ القديم سارعت الحضارات إلى الاهتمام بتسجيل حياتها ووقائع مسيرتها في السّلم والحرب، في البناء والمحن. بل إنّ المجموعات البشريّة قبل بداية التاريخ فكّرت في توثيق حياتها، فلم يكن للإنسانيّة أن تعرف شيئا عن حياة الشّعوب البدائيّة لو لم ينتبه الإنسان البدائي إلى ضرورة توثيق ممارساته الدينية والاجتماعيّة، ماذا لو لم يرسم إنسان الكهوف تلك الرسوم الكهفيّة البديعة لمظاهر الحياة في مرحلة ما قبل التاريخ؟ إنّنا نرى في كهف لاسكو الواقع في محافظة دوردونيه الرسوم والنقوش الأقدم في العالم، رسوم في "قاعة الثيران الكبيرة" ونقوش للحيوانات وخريطة لـ "سماء الليل" تترجم اهتمام إنسان ما قبل التاريخ بعلم الفلك والكواكب والنّجوم، واستطاع المصريّون القدامى بعد اكتشافهم لورق البردي تبادل الوثائق فيما بينهم والأمم الأخرى، كما سمح اكتشاف الكتابة المسماريّة لدى السومريين من تدشين التاريخ وتيسير التوثيق، وبدأت الإنسانيّة تقطع مرحلة جديدة من حياتها عند الشّروع في التوثيق المكتوب بعد أن استغرقت زمنا طويلاً في التوثيق البصري من خلال الجداريات والرسوم في الكهوف والمعابد والقصور، ولم يكن ذلك التاريخ المكتوب في أوّل بدايات غير ترجمة لـ "الوثائق الشّفاهيّة"، فالناظر في تواريخ هيرودوت يجد أنّه استقى معلوماته ممّا جمعه من الألسن، فقد قضى حياته مسافرا عبر آسيا الصّغرى ومناطق الشّام وفلسطين ومصر وهو يلتقي بالناس فيجمع من أفواههم الأخبار والقصص وينظر في الأطلال والخرائب فيستقي من مشاهداته بعضا من الاستنتاجات، وفي روايته للوقائع التي حدثت قبله بقرون دليل على أنّه تلقّف الأخبار ممّا يتناقله الناس من معاصريه، فتداخلت الحقائق بالترهات فيما روى، واستطاع المؤرّخون الإغريق والرّومان من بعده أن يقلّصوا من سطوة المشافهة فيسجّلوا ما عاشوه من أحداث، من ذلك ما قام به المؤرّخ ثيوديد عند توثيقه لحرب البلوبونيز، فغطّى أحداثها على امتداد سبع وعشرين سنة، وكان يتنقل من قرية إلى أخرى لجمع المعلومات عن الحرب ومقارعتها حتّى يدقّقها في كتابته. كان الأوروبيون على وعي بأهمية الوثيقة، وقد اشتقّت كلمة Document من الأصل اللاتيني Docere وتعني "يعلم"، وظلّت في معناها الضيق تفيد أوراق الدّولة الرسميّة من قوانين وتشريعات ومعاهدات مع الدّول ومعاملات فيما بين الدّوائر الرسميّة. ولئن دلّ المصطلح العربي على معنى إحكام الأمر وتثبيته، فإنّه يتماهى مع الاصطلاح الغربي في القولِ إنّ التوثيق هو تسجيلٌ للمعلومات والوقائع، ولا يُمكن لأمّة أن تُمرّر ثروتها الرمزية إلى الأجيال من غير استخدامه، فالتوثيق أداة التعامل في الحاضر وضمان التواصل في المستقبل، لذلك انتبه المؤرّخون الغربيّون إلى أهميته في العصور الوسطى، وبقدر ما اعتمدوا على الوثائق الشفاهيّة وما هو متواتر على الألسن، فإنّهم فكّروا في أداة أكثر تطورا توثّق كل ما يكتبون ويتبادلون من معلومات، فكان اختراع يوحنا غوتنبرغ للمطبعة في القرن الخامس عشر للميلاد حدثا مهما في تاريخ البشريّة لتساعد المطبعة في أعمال التوثيق. ولم يكن الفكر اليوناني الروماني وحده هو الذي اهتدى إلى أهمية التوثيق، فمنذ القديم عرف العرب ذلك البحث عن توثيق معاشهم فغلب على الحياة العربيّة في فترة طويلة التوثيق الشفهي بفعل التناقل، فكان التعويل على الحفظ، وكان الشّعر قبل الإسلام يُحفظ عن طريق الرواة، فسجّل العرب أيّامهم في ديوان أشعارهم، وتناقلوا أخبارهم عبر المشافهة، فعرف العرب القصّاص وهم فئة اضطلعت برواية أخبار القبائل وغزواتها ومآثرها الاجتماعيّة ومعتقداتها، وإثر ظهور الإسلام ازدادت العناية بالتوثيق، ومن ذلك التوثيق الشفوي والكتابي للقرآن الكريم، فظهر "كتّاب الوحي"، وبعد تناقُص عدد حفّاظ القرآن الكريم بدت الحاجة ماسّة إلى عمليّة الجمع، فكان جمع القرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه لحظة مؤسسة لتدشين التّدوين، وظهرت علوم تتّصل بضبط التوثيق للسنة النبويّة، ومنها علم الرّجال، وعلم الأسانيد، وعلوم مصطلح الحديث، وكان عصر التدوين العربي إيذانَا بمرحلة جديدة في الثقافة العربيّة، فالتدوين بما هو توثيق ليس مجرّد تسجيل لحركة الفكر، إنّه انتقال إلى مرحلة جديدة في الإبداع العربي. وزخر تراثنا العربي الإسلامي بمبادرات الكتّاب الذين أدركوا بحسّهم الفكري قيمة التوثيق، وكلّما عدتُ إلى كتاب "الفهرست" لابن النّديم، إلاّ وشعرتُ بذلك الوعي التوثيقي الذي لازم صاحبه، فابن النّديم وراق وتاجر كتب عاش في بغداد في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، لهُ فضل كبيرٌ على الثقافة العربيّة من خلال ما وثّقه في كتابه من الكنوز الأدبيّة التي لم يسلم أغلبها من تصاريف الدّهر، ولما تضمّنه من معلومات عن نشأة العلوم بتقديم تراجم علماء كلّ فنّ، فعُدّ الكتاب موسوعةً علميّة لا يمكن لأيّ باحث في التراث العربي تجاهله. وقد عمل الكتّاب العرب على توثيق نتائج أبحاثهم في شتّى العلوم، فازدهرت صناعة المخطوطات طيلة قرون، ولولاها لما استطاع الغرب أن يخرج من ظلمات قرونه الوسطى، إذ شكّلت المخطوطات العربيّة التي ترجمت إلى اللغات الغربيّة أساسا لنهضة علميّة وفكريّة واسعة النطاق في أوروبا. وفي تاريخنا العربي شواهد كثيرَةٌ على أثر الأعمال التوثيقيّة التي حرص المثقفون العرب القدامى على القيام بها خاصّة في فترات جزر الثقافة العربيّة ومحاولة طمس كنوزها وآثار رموزها، ونستذكر عمليات حرق كتب ابن رشد في زمن الخليفة المنصور في القرن الثاني عشر الميلادي، فلو لم يسع تلاميذه إلى نسخها قبل حرقها لما وصلنا شيء من علم ابن رشد ولما انتفع الغرب بأفكاره الفلسفيّة، فالوعي بالتوثيق أنقذ التراث العربي في أكثر من مناسبة من التلاشي وحفظ ذاكرة الحضارة العربيّة في أكثر من مجالٍ. الوعي التوثيقي في ملحمة المونديال لا شكّ أنّ التوثيق لا يقتصر على عمل المؤسسات، فهو يبدأ بعمل الأفراد وحرصهم على توثيق وتثبيت اللّحظات والفترات والوقائع التي يعيشونها في حياتهم الخاصّة أو يشهدونها في حياة مجتمعهم، ويتّخذ وسائل مختلفة منها المكتوب ومنها البصري، وقد ساعدت الوسائط الرقميّة في الإحاطة بكلّ ظواهر المعاش الإنساني، حتّى صار كلّ فرد يمتلك هاتفا خلويّا بمثابة موثّق. وقد رأينا كثيرًا من عمليّات التّوثيق الفرديّة التي دأب أصحابها على تسجيل الأحداث في فترة كأس العالم قطر2022، وهو أمر مفيدٌ ولكنّه يحتاج إلى مجهودات المؤسسات ليكون التوثيق أشمل وأبقى. وما لفت انتباهي وسررت به تلك الخطوات الذّكيّة التي قامت بها بعض المؤسسات القطريّة في سياق الإعداد لمونديال قطر بهدف توثيق هذا الحدث الجليل، فكما هو متعارفٌ عليه فإنّ الوثائق المعاصرة ليست مجرّد مادة مكتوبة، فمثلما كان التوثيق في العصور السابقة متعدّد الوسائط، فإنّ مجتمعنا الحديث عرف أيضا قيمة أنواع من التوثيق سريعة التداول بين الناس ومنها العملات والطّوابع البريديّة. لذلك قام المصرف المركزي القطري بالتنسيق مع اللجنة العليا للمشاريع والإرث والاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" بإصدار العملات التذكاريّة بمناسبة استضافة قطر لكأس العالم2022، ومنها ورقة نقديّة تذكاريّة مضمونة القيمة، تمّ فيها استخدام مادّة "البوليمر" لحفظها لمئات السنين، وأصدر المصرف أيضا عملات معدنيّة تتضمّن صور أهم ملاعب بطولة كأس العالم، ومنها ملعب البيت، وملعب لوسيل، وملعب الثمامة وملعب خليفة الدّولي، وساهمت هذه العملات التذكاريّة في توثيق وتخليد الحدث التاريخي لا في قطر فحسب وإنما في الوطن العربي. إنّ ما توفّره هذه العملات من مادة تاريخيّة للأجيال القادمة لأمر في غاية الأهمية، فقد مثّلت العملات منذ القديم مادّة تاريخيّة قيّمة في المشرق والمغرب، فلو لم تكن العملة اليونانيّة لما كنّا نعرف الكثير عن تاريخ الكيانات السياسيّة في ذلك العصر، وقس على ذلك على بدايات سكّ العملة في التاريخ الإسلامي، فقد عكست تلاقح المسلمين بثقافات غيرهم من الأمم، فيُذكر أنّ أوّل نقد إسلامي ضُرب في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 18 هـ، وإن تمّ أخذ نقش الكسرويّة عن الدراهم فإنّ المسلمين زادوا عليها كلمات "الحمد للّه" وفي بعضها "محمّد رسول اللّه" وفي بعضها "لا إله إلاّ اللّه"، وإن كانت المسكوكات من ضرب الأعاجم قبل المسلمين، فقد استفاد المسلمون منهم، ووثّقوا بدايات حضارتهم على تلك العملات واستمرّ ضرب المسكوكات في عصور متقدّمة من التاريخ الإسلامي، لتصبح المسكوكات من المصادر الوثائقيّة التاريخيّة الموثوقة، لما تتضمّنه من معلومات وأحداث توثّق المراحل السّياسية والمنعرجات الاقتصاديّة وتعكس المهارة الفنّية لدى المجتمعات. ولا محالة فإنّ ما تعكسه المسكوكات متشبّع بالتاريخ الرسمي للمجتمعات، ولكنّ ما يتضمّنه من معلومات لا غنى عنه لبناء فهم واضح لمنعطفات التاريخ الإسلامي، وقد عُدْتُ أكثر من مرّة للاطلاع على كتابٍ قيّم عني بهذا الموضوع ويعود إلى الأب "إنستاس الكرملي" وعنوانه "النقود العربيّة وعلم النميات"، حيثُ يتعرّض فيه إلى ما دوّنه الأدباء والمؤرّخون العرب المسلمون عن النقود، إلاّ أنّي كنتُ أبحثُ دائما عن تعميق تلك البحوث بدراسة الجوانب الحضاريّة للنقود أكثر من الاكتفاء بالعرض ووضع فهارس تشمل مسميات النقود ومصطلحاتها. استطاعت النقود أن تكون وسيلة لتيسير المعاملات الاقتصاديّة، وأن تحمل رموز السيادة في كلّ حقب التاريخ وأن تعلن عن تدشين عصر ونهاية عصر آخر، وأفول حضارة وصعود أخرى، وهذا يدلّ على أنّ المسكوكات من الوثائق التي لا يستغني باحث في التاريخ عن دراستها، وإذا ما سارع المصرف المركزي بدولة قطر إلى تخصيص عملات لحدث المونديال فلمعرفته العميقة بالخدمة الجليلة التي يقدّمها للباحثين في المستقبل، وبقدر ما يبتهج الناس بالحصول على هذه العملات التذكاريّة فيجمعها الأفراد كما المؤسسات فإنّ الوعي التوثيقيّ بقيمة تسجيل الحدث على العملات يجعلنا نخلّدُ الإنجازات البطوليّة لجيل المونديال. ولم يتوقّف هذا الوعي التوثيقي لدى المؤسسات القطريّة عند هذا الحدّ بل انتشر في العديد منها، ولعلّ ما أقدم عليه بريد قطر، يعدّ نموذجا آخر من ترجمة هذا الوعي، فقد تمّ في سياق بطولة كأس العالم 2022 تدشين إصدارات لطوابع بريديّة، ومنها طابع سلّط الضّوء على إرث دولة قطر في مجال رياضة كرة القدم، وإطلاق طابع البريد الرسمي للبطولة الذي جاء في شكل خارطة لدولة قطر ويحمل الشعار الرسمي للبطولة، إضافة إلى طوابع تعرّف بملاعب كأس العالم، ومجموعة طوابع التعويذة الرسميّة لكأس العالم، ولم يسعد بهذه الإصدارات هواة جمع الطوابع البريديّة فحسب بل سُرّ بها كلّ باحث يُدرك أهمية التوثيق لمثل هذه الأحداث الكبرى، فكلّما تمّ تداول هذه الطوابع انتشرت في أنحاء العالم "الوثيقة" المعبّرة عن استمرار خلود الحدث رغم انقضائه، ولذلك تكون مزية هذا النوع من التوثيق اتّساع المدى الزمني للحفر في الذاكرة الإنسانيّة مما يُجنّبه المحو على مرّ الأزمان.