18 سبتمبر 2025
تسجيلمن أكثر المبادئ والأفكار التي تؤكد عليها العولمة تقديسها لحرية التعبير، إذ أصبح هذا المبدأ الأساس الذي تشترطه الدول الغربية على معظم المجتمعات الأخرى لقبول انضمامها وانصهارها في فضاءات العولمة، إن مبدأ حرية التعبير هو مبدأ قديم لا يمكن تحديده وحصره في فترة زمنية أو منطقة جغرافية معينة، ولعله يمكننا القول: إنه برز وتطور بظهور الصحافة المنتظمة في أوروبا وبالضبط في فرنسا مع ظهور أول صحيفة منتظمة وهي صحيفة لغازات في عام 1639، ومنذ الثورة الفرنسية (1789) بدأت معظم دساتير دول العالم تعترف به، بل وتم اعتماده رسميا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في سنة 1948 والذي أكد حق كل شخص في حرية الرأي والتعبير ويشمل ذلك حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون التقيد بالحدود الجغرافية. وترتبط فكرة حرية التعبير مباشرة بحرية الصحافة والإعلام وهي امتداد لحرية الفكر والمعتقد، فحرية التفكير هي حرية شخصية ينتج عنها الاعتقاد بالفكرة وممارسة هذه الحرية هي التي يطلق عليها حديثا "حرية الرأي"، و"حرية التعبير". وباسم حرية التعبير نشرت صحيفة "جيلاندز بوستن" الدانمركية في 12 سبتمبر 2005 رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مما أثار غضب المسلمين داخل الدانمرك وفي جميع أنحاء العالم. وفي 10 يناير 2005 أعادت صحيفة "مغازينات" النرويجية نشر الرسوم الكاريكاتورية للرسول صلى الله عليه وسلم، تحدث هذه الإهانة والسخرية والانتقاص من قيمة الآخر والمساس بقدسية الرموز الدينية باسم حرية التعبير وحرية الصحافة، إن شتم الديانات الأخرى وأنبيائها يتناقض جملة وتفصيلا مع حرية التعبير وحرية الصحافة حيث إنه لا توجد ديمقراطية أو نظام سياسي يسمح ويبيح التحريض على كراهية أو شتم والانتقاص والاستهزاء يقيم ورموز الآخرين المقدسة.إن ما قامت به الصحيفة الدانمركية وغيرها من الصحف والمجلات الأوروبية (الهولندية، والفرنسية، والإيطالية، والنرويجية) يتنافى جملة وتفصيلا مع العمل الإعلامي الحرفي، المسؤول والملتزم، يتنافى مع رسالة الإعلام الشريفة والنبيلة، يتنافى وقدسية الرموز الدينية مهما كانت وأينما كانت. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو لصالح من؟ مثل هذه الاستفزازات والتصرفات غير المسؤولة، وما هي أهدافها وماذا ستضيفه لخدمة الإنسانية ومبادئها وقيمها، وماذا ستضيفه لتأسيس وبناء قنوات التواصل والتفاهم بين الشعوب والأمم والحضارات؟ إلى أي مدى ستخدم هذه الصور حوار الحضارات والثقافات والديانات؟ مثل هذه التصرفات بدلا من التقريب بين الشعوب تعمق الفوارق والالتباسات وسوء التفاهم وانعدام الحوار وانتشار الصور النمطية التي تفرز الحقد والكراهية والبغضاء والعنصرية والجهل. والمؤسف للحادثة هو أن السلطات الدانمركية والمجتمع الرسمي والمدني في الدانمرك وفي العالم الغربي لم يحرك ساكنا أمام ما حدث، وكأن شيئا لم يحدث، وهذا يعني أن الأمر عادي بالنسبة لهم وأن الإساءة للآخرين ولمقدساتهم ودياناتهم لا تعني شيء، والدليل على ذلك أن استطلاعا للرأي العام كشف أن أغلبية الدانمركيين لا يحبذون الاعتذار للمسلمين لما يحدث كمخرج وكحل للأزمة التي بدأت تشهد تداعيات وتطورات لا تحمـد عقباها. فأجاب 79% من عينة عشـوائية شملت 579 مفردة أن رئيس الوزراء "أندرس فوغ راسموسن" لا يجب أن يعتذر نيابة عن الدانمرك لما حدث. ومن جهة أخرى قال 62% من المبحوثين أنه لا يتعين على صحيفة "جيلاندز بوستن" تقديم اعتذار لما يزيد على 1.3 مليار مسلم في أرجاء العالم لما تسببت فيه الجريدة من نشر الرسوم الكاريكاتورية الـ12 المعادية للرسول صلى الله عليه وسلم والمسيئة للدين الإسلامي وللعقيدة الإسلامية باسم حرية التعبير. ما نجم عن الصحف الدانمركية والنرويجية والأوروبية يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق وأخلاقيات العالم في معظم دول العالم، كما يتنافى مع مبدأ حرية الصحافة الذي يقوم على الالتزام باحترام الآخر واحترام معتقداته ودياناته، كما تخالف تلك التصرفات مقررات منظمة الأمم المتحدة في حوار الأديان والحضارات والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في سنة 1948. الأخطر في القضية كلها هو نتائج استطلاعات الرأي العام التي جاءت لتؤكد ماذا يدور في أذهان الناس العاديين، إذ أكدت عدم الاعتراف بالخطأ وعدم احترام معتقدات وديانات الآخرين وهذا أمر خطير لأنه يشير إلى ضعف درجة التسامح والتفاهم والحوار بين الشعوب، وهنا نلاحظ الدور العكسي والسلبي والخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي، وعصر القرية العالمية، فبدلا من تشجيع الحوار الثقافي والتفاهم والتعرف على خصوصية الآخر وثقافته نلاحظ أن الآلة الإعلامية في المجتمع المعاصر أصبحت تهدم أكثر مما تبني وأصبحت تساهم في إثارة الفتن والحروب والنزاعات أكثر من مساهمتها في نشر السلم والأمن والأخوة والمحبة والتلاحم والتفاهم بين الشعوب والثقافات، الحرية التي تطالب بها معظم المؤسسات الإعلامية في العالم والتي يتغنى بها الكثير أصبحت فارغة من محتواها الحقيقي حيث إنها آلت إلى أشخاص لا يعرفون المعنى الحقيقي للحرية ولا يعرفون الالتزام باحترام الآخر وخصوصيته. فالغريب في الأمر أن الغرب يكيل بمكيالين فالإساءة إلى رموزه أو قيمه ومعتقداته تعتبر خروجا عن الأصول وعن الأخلاقيات والمهنية والحرفية، أما المساس بمعتقدات وقيم الآخر فهي من المبيحات، والغريب في الأمر أن الذي يجرؤ على الكلام في موضوع المحرقة "الهولوكوست" يحاكم قضائيا وهذا لا يعتبر مساسا بحرية التعبير وحرية الصحافة، أما الذي يسيء للرسول محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء والأديان والمعتقدات فهذا شيء طبيعي وممارسة لحرية التعبير والصحافة. والسؤال هنا هو ما الفائدة من كل هذا؟ وما هو الدور الحقيقي لوسائل الإعلام في عصر العولمة؟ هل أن ممارسة حرية التعبير والصحافة يعني المساس بمعتقدات الآخر؟ هل أن حرية التعبير في عصر العولمة قد أصبحت أداة لنشر الحقد والكراهية والصور النمطية والتضليل والتشويه؟ إن هذه الصور المسيئة جدا لنبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم قد قدمت فرصاً وحججاً للجماعات المتطرفة والإرهابية في الوطن العربي والإسلامي لكسب المزيد من المؤيدين والتضليل بهم بحجة محاربة الكفار والطغاة وأعداء الدين الإسلامي سواء في الداخل أم في الخارج. كما أنها مكنت هذه الجماعات من تضليل عقول الشباب بالخطاب المسيء للعولمة وما جاءت به من أفكار جديدة وغريبة عن المجتمعات العربية والإسلامية، وأصبحت العولمة الثقافية وحرية التعبير والصحافة أدوات ووسائل هدم حسب زعمهم تهدد قيم وأخلاقيات المجتمعات العربية والإسلامية. إن الغلو في تقديس قيم الحرية خصوصا حرية التعبير والصحافة التي لا تحترم معتقدات ومقدسات وثقافات شعوب العالم هي مصيبة مضارها وسلبياتها أكثر بكثير من منافعها، لاسيَّما وأن الجماعات الإرهابية ترتقب أي زلة أو خطيئة لتوظفها وتستخدمها لانتقاد ما جاءت به العولمة وحرية التعبير. إننا في هذا السياق لا ندعو لرفض العولمة التي تخدم مصالح شعوب العالم وتحترم خصوصياته الثقافية والحضارية وتعمل على بناء جسور الحوار والاحترام المتبادل وتسعى لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة وعادلة ومستدامة للجميع، بل نرفض الوجه الآخر للعولمة، بخاصة التي تسعى لزرع بذور الفتنة والشقاق وعدم احترام قيم وخصوصيات ومقدسات الآخر. وما أجمل أن تكون حرية التعبير والصحافة في عصر العولمة أداة أساسية للحوار والتفاهم وخدمة مصالح شعوب العالم، وأداة للتعريف بمختلف الثقافات والحضارات، وأن تلتزم بأخلاقيات العمل الإعلامي خدمة للمهنية والاحترافية والموضوعية والمصداقية.