17 سبتمبر 2025
تسجيلتونس مقبلة على فترة تحولات طويلة، ولن يمكن التخلص من تركة زين العابدين بن علي بسرعة وسهولة، ليس فقط لأنه أمضى ثلاثة وعشرين عاماً في الحكم، بل لأنه كان تحول حاكما فعليا لأعوام قبل أن يحتل قصر قرطاج، لم يكتف بالأمن، وهو اختصاصه، وإنما استخدم العقلية الأمنية في إدارة السياسة في الحزب كما في الدولة، ويسري ذلك أيضاً على إدارته للاقتصاد ولمختلف القطاعات والأنشطة. ما نسمعه ونقرأه ونشاهده اليوم عن "مآثر" المافيا العائلية للنظام السابق، كان معروفاً جيداً لدى السفارات ودولها، ومع ذلك كانت هذه الدول تكيل المدائح للرئيس وإنجازاته في "مكافحة الإرهاب" علماً بأن هذه المكافحة كانت موجهة أكثر لتثبيت الحكم الفردي المستبد، خصوصاً أن تونس لم تشهد "ظاهرة إرهاب" بل أن النظام اختلقها لتبرير ممارساته، وإذ يجادل البعض بأنه استبق بروز الظاهرة وحاربها وجنب تونس ويلاتها، فإن ما ينسى هنا أن تلفيق عمليات إرهابية وتلفيق إحباطها واعتقال مرتكبيها المزعومين ثم محاكمتهم والحكم عليهم لا تشكل إنجازاً حقيقياً مجدياً، وإلا لكانت كل الدول لجأت إلى هذا الأسلوب، هناك شكوك بأن بعض الدول والأجهزة قد يكون قلّد طريقة بن علي، لكن في نطاق ضيق ومحدود، وبمستوى أقل من الافتعال، ولأهداف ودوافع مختلفة، كما شهدنا في العراق أو في المناطق الفلسطينية على أيدي قوات الاحتلال. جاء وقت راحت الدوائر الغربية، خصوصاً الأمريكية، تروّج لنموذج بن علي على أنه المرغوب والمطلوب في المنطقة العربية، وقد حاول العديد من الحكام التمثل بهذا النموذج، تكيفاً مع تلك الرغبة، وإذ قاربوا الخبرات التي أعدها بن علي للتصدير فإنهم كسواهم حتى من الغربيين اكتشفوا استحالة تطبيقها، فهذا الرجل جعل بلده وشعبه حقل تجارب للأفكار التي يغترفها من رأسه، ورغم أنه تمتع بإعجاب غربي، إلا أن مطاردته لمئات الإسلاميين الذين هاجروا قسراً إلى بلدان أوروبا، وإلحاحه على ملاحقتهم قضائياً، وعدم استجابة العواصم المعنية لهذا السعي، أحبطته إلى حد ما بمقدار ما كشفت عيوباً أخرى كثيرة اكتنفت نظامه خصوصا احتقاره للحريات وجعله تعذيب السجناء منهجا ثابتا ومستسهلا، فضلا عن شغفه الدائب بإسكات الإعلام في الداخل كما في الخارج. ثم ان الأمر لم يقتصر على الإسلاميين، بل ظهر سريعا أن أي صوت معارض مهما بلغت رزانته وعقلانيته ووسطيته غير مرغوب فيه عند بن علي، لكنه في سعيه إلى تطبيق المواصفات الغربية لـ"النظام المقبول"، راح يخترع الأحزاب المعارضة التي استخدمها كدمى يحركها كيفما يشاء، فتارة يكسبها بعض المقاعد في الانتخابات وتارة يعاقبها للإيحاء بأنها لعبة الناخبين ولا علاقة له بها، وفي النهاية لم يبق في الساحة السياسية إلا من استطاع أن يصبر ويصمد، وهم قلة لم يخطئ التونسيون في تحديد رموزها، أما إحدى الخدع الكبرى التي روّج لها النظام وتولى حزب التجمع الدستوري توليفها: فكانت ان بن علي باق عند الوعد الذي قطعه للتونسيين بأن "لا رئاسة مدى الحياة"، ولو أنه أوفى بما وعد يوم استولى على الحكم في 7 نوفمبر 1987 لكان يفترض أن يخلي كرسي الحكم منذ عام 2004، لكن الخدعة اقتضت أن ينظم حزبه، كلما اقتربت الانتخابات حملة لمناشدته بأن يتنازل ويقبل بولاية رئاسية أخرى، ثم ان البرلمان يجتمع خلافا لرغبته ورغما عنه فيقر تعديلا دستوريا يتيح له الترشيح لمرة رابعة وخامسة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. على خلفية كهذه ينبغي أن تجد تونس سبيلها إلى نظام سياسي جديد، ولذلك تبرز المصاعب، بل لذلك ارتسمت وضعية المستحيل التي وجدت نفسها بمواجهتها، فالشعب المحتج على حق، والحكومة الانتقالية على حق، الشعب محق تماما برفض كل رموز العهد السابق ورجاله، فهؤلاء كانوا مشاركين راغبين وليسوا مرغمين، وإذا كان المأخذ على المعارضين قلة خبرتهم فإن المأخذ على الموالين أن خبرتهم أوصلت البلد إلى الكارثة، وإذا كانت ذريعة الاستعانة بوجوه من الحزب الحاكم لأنه يتمتع حاليا بغالبية ساحقة في البرلمان فإن هذا البرلمان انتخبه صوت واحد لا غير هو صوت الرئيس المخلوع كان ممكنا وضروريا، أن يؤتى بشخصيات مستقلة محترمة يزخر بها المجتمع التونسي والأهم أنه يثق بها تحديدا في المرحلة الانتقالية التي يفترض أن توضع فيها قواعد اللعبة للمرحلة التالية، أما لماذا تعتبر هذه الحكومة محقة أيضا بالإصرار على تسيير عجلة البلاد والحكم، فلأن الواجب الأول الذي فرض نفسه في اليوم التالي لرحيل بن علي هو إعادة النظام والأمن، ولو استمرت الفوضى فإنها كانت ستحتم قفز العسكر إلى الحكم، وهو ما لم يبد الجيش راغبا فيه أساسا، إذ انه ترعرع على عقيدة جمهورية نظيفة تدعوه إلى البقاء في الثكن وعدم الخروج منها إلا لواجب الحفاظ على هذه الجمهورية ومنع الجنوح نحو الفوضى والاقتتال الأهلي. قد يكون بن علي، في صعوده ثم في سقوطه، كتب نهاية حزب التجمع الدستوري، ولا يبدو الثمن الذي دفعه هذا الحزب خلال أسبوع على رحيل الرئيس المخلوع سوى دفعة أولى، وها هو الآن أشبه بجسم كبير فارغ يضطر أعضاؤه إلى التبرؤ منه وإنكاره. فما بدأ في تونس على أنه انتفاضة اجتماعية من أجل الخبز والعمل، ساهم القمع والتقتيل في جعله ثورة لم تسقط الحاكم فحسب، بل هي في طريقها لتثبيت سقوط حكم الحزب الواحد، ولا يعرف تماما ما سيحل بهذا الحزب الذي عاش طوال أعوام على تماهيه الكامل مع الدولة، فالدولة هو وهو الدولة، والدولة حاكم فرد اضطر للمغادرة. وسواء أجريت الانتخابات المقبلة بعد ستة أشهر أو أكثر فسيكون من الصعب على أيا كان أن يترشح تحت راية التجمع الدستوري، وحتى الحزب الذي سيرأسه باسم آخر سيجد صعوبة في إقناع الناخبين بأنه تطهّر كليا من تركة الفترة الاستبدادية. هذه المرحلة الانتقالية لابد منها، ومن الأفضل لأنصار "الثورة" أن يشاركوا بأي شكل في وضع القواعد ليتمكنوا من المشاركة في التجربة وفي تطويرها، فالنظام الجديد لن يولد من الانتخابات المقبلة، وإنما سيبدأ التعريف بملامحه الحقيقية في الانتخابات التالية إذا أمكن للحياة السياسية ان تمضي هادئة وسلمية في بحثها عن الثبات والاستقرار.