18 سبتمبر 2025
تسجيلمن الصعب أن ينتشل الإنسان من الزمان والمكان الذي كون من خلاله انتماءه، وتخيل عندما تتبنى الجماعة نفس هذا الحس وشعور الأمان بأنه جزء من ذكريات ومكان ظل في الذاكرة ورسخ الزمان الذي خلد له الولاء من ذاك الظرف وذاك المحيط الذي ولد له الحس وكون حوله جماعة ينتمي إليها وتنتمي إليه. ولا يسبق الزمان المكان، على قدر ثبات المكان ليكون طيفاً يعود من خلاله الزمان وتبدأ مرحلة المقارنات بين اليوم والأمس، وتتناقل القصص عما كان أفضل من اليوم وكيف كان المجتمع أقرب للموروث مما هو عليه اليوم. مقدمة قد يتباكى عليها الكثير من جيل سابق يحن لقناعة الماضي وتواضعه، وقد يظل هناك دون أن يدرك بأنه يمر في كل تلك الحقب التي جعلته متغيراً، في حين لم يعد ذاك الزمان وذاك المكان من دون أن تطرأ عليه تغييرات اجتماعية عدة. إذ يصعب عليه في هذه الحال الانتقال، كما يصعب عليه التجرد من موروثاته الفردية ومرجعياته التقليدية، أياً كانت معاييرها وقناعاته حولها. ولن يكون الأمر يسيراً على الجماعة، إن ظلت المرجعيات القديمة في عزلة عن التجديد. وقيس هذا الانتماء المتعصب للماضي لما فيه من مرجعيات تقليدية وأثرها على أجيال شعرت بالخلخلة من تلك المنظومة التقليدية والتي لا رابط لها في تلك الموروثات إلا مفهوم هوية معاصر يحدد مكانته اليوم، أهميته ودوره الفاعل وغير الفاعل حتى لمجرد إنه جزء من وطن!. فالمفاهيم تتغير، ولا تقف عند زمان واحد، حتى لو ظلت الأصالة صامدة في زمانها ومكانها، إلا إنها بلا شك قابلة للتمدن وقادرة على العصرنة كي تواكب العصر وتتماشى مع أجيال جديدة، تتمسك في الماضي لأنه جزء من هوية جماعة يعرف من خلاله نفسه، بينما يستطيع أن يتطلع للمستقبل من دون تبعات قد تجره للوراء مع من واكب ذاك العصر وظل معزولاً فيه. فما يحدث في هذه الحال في الحداثة حتى ولو كانت قائمة يعتبر تشويهاً لما تنتجه بناء على مخرجات غير مستقرة في ماهيتها، أي من المجتمع من الداخل، غير قادرة على الانطلاق في ظل المجتمع التقليدي ولا هي قادرة على البقاء والصمود مع الموروثات الفردية كعقليات جامدة، ولا قادرة بالخروج كي تتجرد منها لتطلعات مستقبلية أقرب إلى الابداع كإجراء توظيفي وتشغيلي لها وعلى مستوى حديث بأقل الأضرار والعراقيل التي تأتي من مرجعيات تقليدية فردية وسلوكيات اجتماعية سابقة. ومن هنا يأتي مفهوم الحداثة أكثر إدراكاً لطرق التعامل مع البعد الأخلاقي والتقليدي عند المجتمع، من حيث قدرة الحداثة على التوسع من ضائقة الموروثات السابقة كسبب منطقي وفكري لانفتاح المجتمع كي يكون أكثر مدنية وبروح وطنية عالية. وقيسها أيضاً على انطلاقة الفرد كعنصر إبداعي يترقب الانطلاق من نفس ذاك المجتمع العرفي. وهذا الشعور والتحول الاجتماعي لن يأتي بشكل سهل إن لم يكن نابعاً من الداخل ومواجهاً لعقبات الحداثة عندما تصبح دخيلة، بل حتى وعقبات الموروث عندما يكون عائقاً. ويصعب علي في حقيقة الأمر أن أراهن على مجتمع متقدم من دون أن أحزن على أعرافه الاجتماعية التي لا يتجرأ أن يبقيها معزولة ولو لوهلة خاصة وعندما نبدأ الحديث عن التنمية والمحاولة للخروج إلى الانتماءات المجتمعية الحديثة التي يشعر من خلالها الفرد بأنه عضو فعال لا يضيق عليه محيطه بسبب مرجعيات تقليدية قد لا تكون إلا عرفاً لا غاية له إلا البقاء في الماضي والاحتماء فيه!. والمشكلة ليست مؤسسية من وجهة نظري في هذا المقال، بل تظل المؤسسة لديها القدرة على إحداث التحولات الاجتماعية المطلوبة وتمكين الإبداع بشكل مركزي أكثر، إلا إن يظل للمجتمع الهيمنة العرفية من خلال قدرته الفردية على فرض رغباته على سياق رجعي أو تقليدي معين، إذ يعمل على اخماد شرارة الإبداع بشكل تلقائي وشرس. ويطرح بعض المفكرين سؤالاً تفكرياً مهماً: ما حاجة المجتمع إلى الجديد عندما يملك ثقافة وتقاليد؟ وفي الحقيقة يظل هذا السؤال عميقاً ولكن الجواب عليه قد يقتصر على جملة بسيطة، بأنها مسألة توجيهية تقاس من خلال آلية تقبل التمدن وتمكين التحولات الاجتماعية المعاصرة من خلال الضرر الأقل على خصخصة مجتمع، بالإضافة إلى القدرة التوجيهية على إتاحة فرصة الابداع من خلال رسم الخطوط الحمراء والخضراء على أبعاد الثقافة وأبعاد التقاليد التي تساهم في الحفاظ على تأصيل المجتمع، وفي نفس الوقت تتيح له الاستمرارية المعاصرة لأبعاد اجتماعية متجددة تواكب الحداثة بينما تظل ماهيتها صلبة وبروح إبداعية محركة. هذا أفضل سيناريو نقيس عليه مسألة التمدن مع أجيال ترغب في تحديد إطارها الوطني بحس ابداعي وبتقليل ضرر العرف الاجتماعي عليها. وفي نهاية الأمر، يظل التحدي قائماً في فهم آلية التنفيذ التنموية ورسم الخطوط الحمراء والخضراء لتغييرات المجتمع وتقاليده في زمن الحداثة بمعناه الفكري والتجريدي لمنظومات اجتماعية سابقة. هل تراهن على مجتمع متقدم عندما ينجرف وراء عرفه بنفسه؟! [email protected]