16 سبتمبر 2025
تسجيلحفل تاريخ مصر بمستبدين كثر، والاستبداد ليس تقييما ذاتيا، ولكنه وصف موضوعي يلحق كل من يعتنق أفكارا تسلطية، ولا يؤمن بأي دور للجماهير في صناعة السياسة أو تحديد ملامحها أو اختيار القائمين عليها. ومن أشهر المستبدين في تاريخ مصر الحديث إسماعيل صدقي باشا، رئيس وزراء مصر الأسبق، والذي وصفه المستشار طارق البشري بأنه "كان رجل المصالح الأجنبية في مصر، وكان ضد الديمقراطية على طول الخط، كما كان ذا علاقة وثيقة برؤوس الأموال اليهودية المهيمنة على الاقتصاد وقتها". وخلال الفترة القصيرة التي تولاها الدكتور مرسي دأب الكثير من "المثقفين" على عقد المقارنات بينه وبين الباشا المذكور، وكانت حجتهم في إجراء هذه المقارنات أن الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي (ثم ألغاه) يشبه دستور 1930 الذي أصدره إسماعيل صدقي وصادر فيه العديد من الحريات. الغريب أن هؤلاء المثقفين يصمتون الآن صمت القبور عن عقد أي مقارنة بين تجربة صدقي الاستبدادية وبين التجربة الانقلابية التي تقتفي أثره بكل دقة، بل إن مظاهر التشابه فيما بينهما أوضح بكثير من أي تشابه عارض قام بين حكومة صدقي ونظام مرسي. وتأكيدا لهذا المعنى نجري فيما يلي معارضة لمقالة كتبها أحد الأكاديميين البارزين من مؤيدي الانقلاب (د. محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة)، قام فيها بعقد مقارنة بين الرئيس مرسي ورئيس الوزراء صدقي. وفي إطار هذه المعارضة سوف نستبدل الفقرات التي تحدث فيها الكاتب عن الدكتور مرسي بأخرى تتحدث عن الانقلاب، (مع وضع عبارات المؤلف الأصلية بين علامات تنصيص)، وسوف نجد في النهاية أن المقارنة أكثر انطباقا على النظام الانقلابي. "شهدت فترة إسماعيل صدقي، سواء في الثلاثينيات أو في الأربعينيات (تولى رئاسة الوزارة مرتين)، أكبر حملة عصف بالحريات في مصر؛ من إلقاء القبض على الخصوم أو الاعتداء على حرية الصحافة، ولعل أكبر الأمثلة على ذلك إغلاقه لجريدة الوفد المصري، كما حفل عهده بالصدام الدامي مع الجماهير المصرية". وبالمثل قام النظام الانقلابي بعسكرة الدولة فقام بإغلاق القنوات المعارضة، وألقى القبض على كافة قيادات جماعة الإخوان، فضلا عن كثير من المعارضين الذين اعتبروا أن ما شهدته البلاد في الثالث من يونيو انقلابا على إرادة الأمة. والأسوأ أن البلاد شهدت على يدي هذا النظام عددا مهولا من المذابح، راح ضحيتها المئات (وفق أقل تقدير)، فضلاً عن آلاف المصابين. "ويظهر التماثل بين تجربتي صدقي (والانقلابيين) في أجلِّ صوره في موقفهما من مسألة الدستور والديمقراطية، فقد عصف صدقي بدستور 1923 وأصدر دستور 1930 المكبل للحريات، مبررا ذلك بأن البلاد لا تحتمل هزات جديدة". وكان هذا هو نفس ما تذرع به الانقلابيون وهم يطيحون بالرئيس المنتخب ديمقراطيا، وينصبون مكانة حكومة معينة ثم يشكلون لجنة غير منتخبة لتضع دستورا على مقاس الانقلاب، يستبعد الخصوم ويحظر وجودهم في الحياة السياسية، وذلك بحجة أن البلاد كانت على وشك الوقوع في الفوضى. "ومثلما كان صدقي حريصًا على كسب دعم بريطانيا (القوة العظمى وقتها) لخطته الشمولية، (حيث وصفها في مذاكراته بأنها البلد العظيم صديقنا وحليفنا)، وهو ما كافأته بريطانيا عليه بإعلان مندوبها السامي أن بريطانيا تؤيد مسعاه من أجل خير هذا البلد"، اعترف قائد الانقلاب (الفريق عبد الفتاح السيسي) بأنه كان يطلع المسئولين الأمريكيين بتفاصيل ما قبل الانقلاب يوما بيوم، وهو ما كافأه وزير الخارجية الأمريكي عليه بأن صرح ان ما شهدته مصر كان لإنقاذ الديمقراطية وحمايتها. "ويتصاعد التشابه بين تجربة إسماعيل صدقي (والانقلابيين) عندما نعلم أن صدقي لم يكتف بقوات الشرطة في قمع المظاهرات والاحتجاجات للحفاظ على الأمن من وجهة نظره، وإنما استعان في خطوة غير تقليدية بجنود الجيش لقمع المعارضة". وهو نفس ما فعله الانقلابيون عندما سخروا كلا من قوات الأمن وقوات الجيش لتنفيذ مشروعهم الانقلابي. الأمر الذي وضع المؤسسة العسكرية في موقف يتضاد مع دورها الوطني تورطت خلاله في تصفية المواطنين العزل. الجزئية الوحيدة التي يمكن أن نتفق فيها مع كاتب المقال تتعلق بنقده جماعة الإخوان في موقفها من حكومة صدقي. فقد دفع قصر النظر السياسي وقتها قيادة الإخوان المسلمين إلى "الوقوف إلى جانب صدقي وهو في ذروة استبداده وعصفه بالمعارضة". ويبدو أن قصر النظر السياسي هذا قد استمر مع الجماعة حتى قامت بالإشادة بمنفذ الانقلاب الحالي واصفة إياه بأنه "وزير دفاع بنكهة الثورة" بعدما اختاره الدكتور مرسي دونا عن غيره لشغل هذا المنصب. إلا أن الأزمة التي تعيشها مصر الآن أكبر من الإخوان المسلمين ومن أخطائهم السياسية، فالأزمة الآن هي أزمة وطن أُهدرت إرادة شعبه، وتم إحلال منطق القوة فيه بدلا من منطق الشرعية. المثير للتفاؤل أن التاريخ يعلمنا أن الشعوب عادة ما تكون أطول نفسا من حكامها، فدستور 1930 الذي استبدت به حكومة إسماعيل صدقي لم يصمد أمام الاحتجاجات الشعبية، بل إن صدقي نفسه والذي جمع كل السلطات في يده، وحكم البلاد بقبضة من حديد، لم يستطع أن يستمر في الحكم، إذ اشتعلت البلاد بإضرابات متكررة، وانتشرت الاحتجاجات ضده إلى الحد الذي كان معه غير قادر على أن يحضر الاجتماعات غير الرسمية، وفي النهاية قدم استقالته وألغي العمل بدستور 1930. وإذا كان صدقي باشا لم يصمد أمام الاحتجاجات الشعبية رغم أنه كان صاحب عقلية اقتصادية فذة، استطاع من خلالها أن يجنب البلاد الآثار المدمرة لأزمة الكساد العالمي التي بدأت في العام 1929، فإن النظام الحالي الذي يفتقر إلى هذه البراعة الاقتصادية من المرجح ألا ينجح هو الآخر في الاستمرار في السلطة، تماما كما لم ينجح في أن يقدم للناس - بما فيهم مؤيدوه - ما يشفع له عندهم من تحسن في نمط الحياة أو انفراجة في مستوى المعيشة بأي درجة معقولة.