15 سبتمبر 2025
تسجيلفي إطار زجاجي قديم ورثته عن والدي المولود سنة 1331هـ والتي يسميها أهل الأحساء " سنة كنزان " نسبة إلى معركة خاضها الملك عبدالعزيز شمال الأحساء ضمن جهوده في توطيد حكم البلاد وتوحيدها. فما زلت أحتفظ بصورة منسوخة من صك شرعي في ذلك الإطار تبرز شهادة وفاة جدي في تلك المعركة ضمن رجال الملك عبدالعزيز الذين خاضوا المعارك معه يرحمهم الله جميعاً إيماناً بفكرة التوحيد وعائدها على الأمة بعد أن عايشوا طويلاً ويلات التشرذم وانعدام الأمن وتفشي الفقر والجهل والمرض. صور ومشاهد مؤلمة كان يرويها لنا والدي وهو الفخور دائماً بوالده الشهيد تحت تلك الراية التي حملت " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ومع أن الوالد لم يعايش سنوات ما قبل قيام الدولة السعودية الثالثة إلا أنه شاهد على فترة التحول الكبير في البلاد نحو الحاضر الذي غيب جملة تلك الصور المؤلمة للحياة في بلادنا وكيف كان ترهل حكم العسكر العثماني آنذاك مدعاة لتكرسها بين الناس حيث لا يأمن الرجل هنا على ماله وعرضه في حياة يحفها الفقر والعوز الدائم لكل متطلبات الحياة. بل وترسخ الخوف في طبيعة الناس هنا حسب الموروث المنقول إلينا فلا تزال الأمثال الشعبية تنقل في مضمونها دلالات ذلك الواقع المرير. فكان الناس يعملون " فلاليح " في مزارع الدولة العثمانية بقوت يومهم سخرة بقوة العسكر وبطشهم دون هوادة أو مراعاة لمسؤولية أو ملامح أمن بل كان الممتعضون من كل الطوائف والقبائل يزج بهم في خنادق مخيفة تحت الأرض أو يُبعث بهم إلى الباب العالي " الأستانة " في إسطنبول ليقتص منهم مقابل معارضتهم. والأدهى أن الناس هنا أصيبوا في عقيدتهم وممارساتهم الدينية بعدما تفشت بينهم ظواهر وممارسات ليست من الدين أو العقل في شيء. عموماً تلك فترة ذهبت بدخول الملك عبدالعزيز وإجلائه للعسكر عودة إلى بلادهم عبر ميناء العقير في الأحساء لتتشكل هنا نواة جديدة نعيش اليوم نتائجها في مختلف مجالات حياتنا ونحتفل أيضا بمرور العقود السنوية الطويلة منذ انطلاقتها. فالمملكة اليوم تحتفل بالذكرى الثانية والثمانين لتأسيسها تحت اسم المملكة العربية السعودية في الأول من الميزان عام 1351هـ الموافق لـ 23 سبتمبر من كل عام. وفي هذه المناسبة يتجلى عمق الفكرة والتجربة السعودية في تأسيس الوطن وهي بلا شك تجربة تاريخية تستحق التعمق في فهم أهدافها ومقاصدها والتي ارتكزت على محور الدين الإسلامي وحمايته وإقامة حدوده بين الناس وهو ما اعتُمد كمنهج أساس للحياة والعودة بها إلى النظام الذي يحفظ للناس كرامتهم وحقوقهم دون تمايز أو استغلال لتسير بعد ذلك البلاد بكل مكونها تحت تلك الراية وتتبدل معها صور الحياة إلى ما هو مشاهد الآن من مظاهر البناء والتنمية التي وصلت بالبلاد إلى مراتب متقدمة تحفظ لجهود البداية التقدير والاحترام. فما تحقق فعلاً هو مكتسب كبير للبلاد وأهلها ولا نقول ذلك مباهاة أو إفراط بل حيادية ورصد لمسيرة تحول تستحق الإشادة دائماً. وحيث تبقى طبيعة تحولات الشعوب وتطوراتها شاملة ومتضمنة لكل التباينات المصاحبة لمسيرة ذلك التحول فيرصد القبول كما يرصد الامتعاض والرفض لكل حركة تحول نقلها التاريخ حديثه وقديمه. بيد أن الفكر الإنساني يمايز غالباً بحيادية بين المكتسب الجاد والطموحات الأخرى الجانحة نحو السلبية والتي يغذيها الحسد ومحاولات الرفض المدعومة أحياناً والدخيلة والساعية إلى النيل من المجتمعات وزرع طعوم الفتنة بين أفرادها. إلا أن التجربة السعودية بالمقاييس التاريخية ذات نمطية مرنة تستوعب المتغيرات وتعالج الأخطاء بل وتتحمل الانتهازية أيضاً بما تتضمنه تلك التجربة ومسيرها التاريخي من قوة المبدأ وصلابة المكون الشعبي الذي ارتبط بمفهوم الدولة وقيادتها ارتباطاً وثيقاً لتظل المملكة العربية السعودية دولة تغدو نحو المستقبل وتحظى بحضور مميز في سياساتها وفي نهج قيادتها وأيضاً في تركيبتها السكانية التي تبدو دائماً لحمة واحدة مع قيادتها لتكون وطناً يرتكن إلى تاريخ وعقيدة ويتطلع إلى مستقبل واعد. لذلك يفرح السعوديون بكل ميولهم بالوطن دائماً وبمكتسباته ويعملون جميعاً للدفاع عن حياضه والفخر بكيانه في هذا اليوم الوطني وفي كل المواقف تماماً كما فعل الوالد يرحمه الله معتزاً بما قدم والده من أجل الخلاص من قهر أيامه ومن أجل الأجيال من بعده.