15 سبتمبر 2025

تسجيل

مجرمون عصريون مُحتفى بهم !

23 أغسطس 2018

إن سألت أحداً وبسرعة: من ذاك الذي يمكن أن نقول عنه إنه مجرم؟  سيقول لك من فوره وبشكل تلقائي: إنه من يقوم بسرقة المنازل أو المحلات التجارية، أو يقوم بالاعتداء على الآخرين بالسب والشتم وأسوأ الألفاظ متدرجاً في الاعتداء ليصل إلى الضرب وإلحاق الأذى المادي، أو ذاك الذي يعتدي على الأعراض والحرمات وما شابهها من جرائم.. ولا أظنك ستخرج عن تلك التعريفات أيضاً، باعتبارك أحد أبناء مجتمعك الذي تعارف أفراده على تلك النظرة للجريمة والمجرمين..     المجتمعات عادة تتفاعل مع تلك الجرائم ومرتكبيها من نواح عدة، أهمها تلك الأسباب التي تدفع أولئك المجرمين بارتكاب أفعالهم غير القانونية أو جرائمهم.  وتكثر لأجل ذلك الدراسات والأبحاث المتنوعة المتعلقة بسلوكيات المجرمين، والظروف النفسية والاجتماعية التي دفعتهم إلى ارتكاب الجرائم، وتخرج النتائج غالباً مشيرة إلى الفقر، وأنه ربما يكون سبباً مهماً لذلك، بالإضافة إلى الأسرة المفككة المضطربة التي يخرج منها المجرمون، أو سبب ثالث يدور حول الاختلالات الصحية في أجسام المجرمين تدفعهم إلى ارتكاب تلك الأفعال، وغيرها من أسباب ما يزال يعكف علماء الجريمة والاجتماع والصحة النفسية عليها، من أجل دراستها أكثر فأكثر والخروج بنتائج تفيد  في مجال الإجرام  وكيفية  الحد منه. لا جديد تقريباً في كل ما تطرقـنا إليه في مقدمة أكاديمية مملة، باعـتبار أن الإجرام وعناصره من الأمور الاعتيادية، أو التي صرنا نسمع عنها يومياً ونقرأ نتائجها أيضا، بل ونشاهد هذا العالم المجرم في الأفلام السينمائية كذلك، وبالتالي تكونت لدينا صورة ذهنية للمجرم حينما نسمع به وبأفعاله.. فهو ذاك الشخص صاحب الوجه المشوه بفعل ضربات وجراحات. كث الشعر يحمل سلاحاً أبيضاً في الغالب، لكن قلبه أسود مليء بغيظ وقهر من مجتمعه الذي يعيش فيه، وبسبب ذلك يريد أن يقـتـل ويسرق ويعيث في الأرض فساداً كجزء من انتقام يعتقد أنه يقوم به، لأن هذا المجتمع تجاهله في زمن ما أو دفعه إلى هذا الإجرام، إضافة إلى أوهام ومعتقدات أخرى يؤمن بها.. فيما بالطرف المقابل، تجد غالبية المجتمع تتمنى لو أن هذا المجرم يقع في قبضة رجال الأمن، ويتم الزج به في غياهب السجن سنين طويلة، لا يخرج منه أبد الدهر، كي ينعم المجتمع بالهدوء والطمأنينة والأمن والأمان، ويعيش الناس حياتهم بلا خوف أو وجل.. هكذا المشهد الطبيعي الحاصل في أي مجتمع. لنطرح تساؤلاً ها هنا وقد وصلنا إلى إبراز مشهد الجريمة في أي مجتمع، وكيفية التعامل مع المشهد بكل مكوناته، ونقول: ماذا لو أنه تم القبض على (كل المجرمين) في أي مجتمع، بل وكل من يشتبه فيهم أو في احتمالية دخولهم إلى عالم الإجرام.. هل بعد ذلك يمكن أن يعيش أفراد ذاك المجتمع في أمن وأمان، ولن تكون هناك أضرار عليهم أو على مجتمعهم؟  بالطبع ستكون الإجابة الفورية لدى من يسمع بهذا التساؤل هي نعم وألف نعم !  لكن ماذا لو أن الإجابة خلاف ذلك؟!  لا شك في أن من تم ذكرهم قبل قليل من المجرمين، يستحقون الردع والزجر والعقوبة، ولا خلاف على ذلك.. لكن ماذا عن مجرمين حقيقيين يمرحون ويسرحون في المجتمعات، ليسوا من أولئك الذين تم زجهم في المعتقلات والسجون، وتكون نتائج أعمالهم وآثارها مؤثرة بشكل مباشر على الأفراد والمجتمعات بشكل عام، بل ويشعر بها الناس ويتفاعلون معها، لكن دون أي زجر أو ردع من الجهات المسؤولة.. إذ تجد أولئك المجرمين الحقيقيين يرتكبون جرائمهم بكل هدوء ودون تأنيب ضمير، بل بقـناعة شبه تامة أن ما يقوموا به لا يـندرج ضمن إطار الإجرام وإنما " الشطارة " ، التي يقف القضاء إلى الآن حائراً في كيفية التعامل معها أو  ضبطها بجرم أو جناية !   إذا اتفقنا على ما يذهب إليه علماء النفس والاجتماع والجريمة، أن المجرم ما يقوم بفعلته إلا لأن هناك سببا أو أكثر يدعوه إليه، مثل فـقر وحاجة أو اضطراب نفسي صحي أو خلل في الغدد أو غيرها من أسباب، فماذا نقول عن أولئك مجرمي الشطارة، الذين يرتكبون جرائمهم ضد مجتمعاتهم ومن يعيش فيها، ملحقين بهم خسائر فادحة لا يشعر بها أحد بالسهولة تلك التي مع المجرمين العاديين؟   إنهم منتشرون في العالم بنسب متفاوتة، والعالم العربي جزء منه.. يـتـلاعبون بمصائر ومصالح الناس، دون أن يتمكن أحد من اقتفاء أثر من آثار جرائمهم بسبب قدرتهم وشطارتهم في ارتكابها، مثل التلاعب بأسهم الشركات في أسواق المال، أو الـتصرف في رؤوس أموال الشركات قبل تأسيسها، أو قيام بعض أعضاء مجالس الإدارات  في شركات هنا وهناك بالحصول على  قروض من أموال الشركة مقابل شيكات مؤجلة، رغم أن الشركة ليس من مهامها ومجال عملها الرئيسي مثلاً تقديم قروض، أو قيام أعضاء آخرين بإبرام صفقات تجارية مع شركاتهم الخاصة، أو قيام بعض أولئك المجرمين بالحصول على أراض حكومية عامة بدعاوى مـتـعددة كاستخدامها لمشاريع صناعية أو استثمارية، وإذا بهم يستخدمونها لأغراض شخصية بحتة، أو قيام بعض أعضاء مجالس إدارات الجمعيات الـتعاونية بدفع  الجمعية للشراء من السلع التي تستوردها  شركاتهم الخاصة، أو قيام البعض الآخر باستغلال وظيفته لمصالح شخصية ومنفعة آخرين دون وجه حق، أو شراء ذمم وولاءات.. إلى آخر قائمة طويلة عريضة تضم نوعيات مختلفة من أولئك المجرمين " الشطّار"، لن نقدر على أن نحصيها في هذه المساحة..  فهل يعتقد علماء النفس والاجتماع والجريمة أن أمثال هؤلاء المجرمين، مرضى مثلاً أم أنهم بحاجة للمال بسبب فقر مدقع أم لوجود خلل في الغدد الصماء عندهم؟ أحسبُ أن الحديث يطول ويتشعب في هذا الموضوع، لكن من المهم معرفته كخلاصة دقيقة لحديثنا، هي أن المجرم أو الحرامي كما تقول العامة، ليس فقط ذاك الذي يسرق بقالة أو شنطة نسائية أو عنزة سائبة من قطيع أو عزبة نائية، فهؤلاء من السهل الوصول إليهم واعتقالهم وإنزال العقوبات عليهم بل والتشهير بهم.. إن الإشكالية الحقيقية ليست في النوعية الأولى العادية من المجرمين، لأن أثرهم كما أسلفنا محدود ومن السهل ضبطهم وتقويمهم. إنما الإشكالية المعقدة كامنة في أولئك المجرمين " الشطّار " الذين يسرقون في وضح النهار، والمجتمع ربما أغلبه يعرفهم، لكن التناقض والمفارقة العجيبة أن المجتمع نفسه الذي يعرفهم ويتحدث عن آثار سرقاتهم، تجده يحتفي بهم في كل مناسبة، بل تجد الأبواب مفتّحة أمامهم، يدخلون ما شاءوا منها، يسرقون ويعيثون في الأرض الفساد !!  كتلة من التناقضات تعيشها الكثير من المجتمعات.. يقيمون الحدود والعقوبات على الفقير- وإن كان هذا لا يعني قبول جريمة الفقير مهما كانت - ويتركون الشريف الغني الوجيه المشهور، ثم تأتي المجتمعات ذاتها وتئن وتشتكي، وتكثر بها الندوات والمؤتمرات والدراسات لبحث سبل الوقاية من الجرائم العصرية وتنظيف المجتمعات من المجرمين العصريين الشطار !  كيف لمجتمعات تئن وتبحث سبل حماية نفسها من الجرائم والمجرمين، وهي تحتفي بهم من جانب آخر وتعلي من شأنهم ؟ من يقدر على حل هذه الإشكالية أو المعادلة الرياضية غير السوية؟.