15 سبتمبر 2025

تسجيل

سوريا والعرب بين مكر إيران ومقامرة الغرب

23 أغسطس 2015

يتفنن التاجر الإيراني باستعراض مهاراته بعد جرعة الثقة التي اكتسبها إثر توقيع الاتفاق النووي مع الغرب، والشرق طبعاً. ثمة لذة خاصة عنده في اللعب مع.. الشيطان الأكبر، لا تضاهيها لذةٌ أخرى. واليوم، تنفتح الأبواب والنوافذ ليمارس مواهبه السياسية والدبلوماسية في الساحة الإقليمية بعد إذ كان مُحاصراً سابقاً داخل حدودها، فلا يملك أن يتحرك فيها إلا بمنطق القوة وأدواتها. كان هذا بالأمس، وقد أحسنَ فيه استغلال ذلك المنطق وأدواته، أما اليوم فنهار جديد. هي فرصة إذاً ليُثبت التاجر لـ(الشيطان) تحديداً أنه عند حُسنِ ظنه فيه، ويُعطيه أوراقاً تُمكنه من تأكيد صوابية الاتفاق. أوراق للداخل الأمريكي تُسهل مصادقة الكونجرس على الاتفاق، وأخرى للعالم، تساهم في التسويق لفتح أبوابه الاقتصادية وجلب استثماراته المالية ومعارفه التقنية. تعرض إيران في هذه المرحلة بضاعتها بكل أنواعها، حتى (الرمزية) منها، لأنها تعرف درجة الكمون في قوة (التأويل) عندما يتعلق الأمر بمثل هذه البضاعة. هكذا، يزور وزير الخارجية الإيراني بيروت، ليضرب عصفورين بحجرٍ واحد. فمع تأكيد الهيمنة الإيرانية على لبنان وشؤونه من قضية الرئاسة إلى مشكلة النفايات، وهي أمورٌ لم تعد تؤرق الغرب المُتفاهِم والمُتفهِّم، يخرق ظريف البرتوكول الإيراني في لبنان، ويمتنع عن زيارة ضريح عماد مغنية، في رسالةٍ، رخيصة، ولكن صارخة الدلالات لأمريكا، تتعلق باحترام قوائمها المتعلقة بالإرهاب. أما زيارة قاسم سليماني إلى روسيا، وهو المصنف على القوائم نفسها، فتفصيلٌ هامشي يمكن التعامل معه بعبارة واحدة لمندوبة أمريكا في الولايات المتحدة قالت فيها إن التقارير المتعلقة بالزيارة "مقلقةٌ للغاية"، لتستدرك بعدها مباشرةً بالقول: "لكننا مازلنا نتحرى عن الحقائق"، وكفى الله المؤمنين القتال. لا تفهم إيران اللعبة جيداً فقط، ولا تتفنن في الحركة وفق قوانينها فقط، بل وتحاول الإبداع في ممارستها كما يحصلُ اليوم في العراق على سبيل المثال. ففجأة، يشرب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي (حليب السباع) ويُصدر قرارات إصلاحية سياسية وإدارية هي أقرب للانقلاب. ورغم أن مواقف ومطالب إصلاحية أقل طموحاً بكثير جوبهت بالرفض القاطع سابقاً، يمر انقلاب العبادي بضوء إيراني أخضر يستحيل تمريره في غيابه. تدرك إيران أن القرار النهائي سيبقى في يدها داخل العراق، سياسياً وعسكرياً، وأن سيطرتها على هذا البلد تبدو دون منازع حقيقي. فالواضح أن لاعبي الداخل العراقي مضمونون في استجابتهم للقرار الإيراني، إن لجهة الولاء الأيديولوجي الكامل، بالنسبة لغالبية الشيعة، أو لجهة غَلبة الأمر الواقع، لمن يفكر بأي درجة من العصيان منهم لمصالح شخصية، مثلما هو الحال مع المالكي. فالمصلحة الكبرى هنا، وهي إيرانية أولاً وآخراً ودائماً، تلغي كل قيمة للمصالح الشخصية حين يحصل تضاربٌ بين المصلحتين كما هو الحال الآن. في حين كان يمكن تمريرهما بانتفاء التضارب بينهما، كما كان الوضع سابقاً في مرحلة المالكي نفسه رئيساً للوزراء. أما لاعبو السنة فقد جرى تشتيتهم وتقسيمهم رَغباً ورَهَباً، حتى غاب دورهم بشكلٍ كامل. تدرك إيران كل ذلك، وتدركُ أن الغرب يعرف يقيناً تلك الحقيقة. هكذا، يتم احتساب الإصلاحات في العراق كإنجازٍ إيراني خالص، يزيد من رصيد إيران، ويُثبت قدرتها، ليس فقط على (الاندماج)، بل وعلى تنظيم أمور المنطقة، أو، بكلامٍ أقرب للدقة، ما يهم الغربَ فيها. والمؤكد أن سوريا، وما يجري فيها من مآسٍ إنسانية على الأقل، لا تدخل في ذلك الإطار. على العكس من ذلك. بينما تُخطط إيران لإحكام قبضتها على سوريا، لا يزال النظام الدولي يتعامل مع الموضوع السوري بمزيجٍ من الخبث والوقاحة، إذ تبدو عينهُ، التي لم تغفل عما فعلته (داعش) بالأقليات في سوريا، عمياء كلياً عن المذابح التي يرتكبها النظام في حق السوريين (هل نقول الأغلبية؟). فرغم هول المأساة التي شَهدتها مناطق مختلفة في البلاد على مدى يومين الأسبوعَ الفائت، كان (الصمتُ) العالمي، خاصة منه الأمريكي والأوروبي، صاخباً وعالي الضجيج فيما يتعلق بالرسائل التي يُراد إيصالها للسوريين الثائرين، وللنظام الذي يقتلهم ليل نهار، ولداعميه الإقليميين والدوليين، ولمن يُناصر الشعب السوري أو يُفكر في دعمه. أكثرَ من هذا، تتكامل، بهدوءٍ وتدرج، عملية الحصار الدبلوماسي الدولي الذي سيُواجهُ به السوريون عما قريب. يحصل هذا من خلال العملية الطويلة، (السَّلَّالَة)، كما يقولون في الشام للتعبير عن ممارسات يغلب عليها التلاعب واللؤم. تلك العملية التي بدأها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا في جنيف منذ شهور بلقاءات ادعى أنها تستمزج رأي جميع السوريين، لتنتهي بخطةٍ تم تركيبها من قبل حفنةٍ من هؤلاء، بتنسيق مع الإيرانيين والروس، ويبدو أنها ستُصبح المسار البديل لمسار (جنيف) بقرارٍ رسمي من مجلس الأمن، رغماً عن أنف غالبية السوريين، وكثيرٌ منهم التقى دي ميستورا، وصرح بأن مقترحات هذا الأخير وخطته لا تُعبران عن آرائهم التي عرضوها عليه في لقاءاتهم معه، في قليلٍ أو كثير. الأرجح أن تزيدَ تلك الخطة الفوضى في المنطقة. ولكن، لا مشكلة لدى الغرب في أن يلعب بالنار، ما دام اشتعالها سيكون بعيداً عنه، بل إنه مقامرٌ بطبعه، وليس غريباً أن تتكرر تجربته مع هتلر، فيأخذ نفسَهُ والعالم إلى الهاوية. صحيحٌ أن إيران تركز، في هذه المرحلة، على أن تقبض ثمن بضاعتها في سوريا تحديداً، لكن رهانها الكبير معروف، وطموحها الإستراتيجي لا يخفى على أحد، والفوز بسوريا أخطرُ خطوةٍ لتحقيق ذلك الطموح. وقد يكون من سوء حظها، وحُسن حظ العرب، كشفُ خلية حزب الله في الكويت، بمخزون من السلاح والعتاد يوحي بأنه لتجهيز جيش صغير أكثر منه للقيام بعملية هنا وأخرى هناك. ما الذي كان يُحاك للكويت (المحايدة)؟ ماذا تخبئ إيران، إذاً، في دول الخليج الأخرى مما لم يُكتشف حتى الآن؟ هل تحسم هذه الواقعة حيرة بعض العرب وترددهم فيما يتعلق بإيران، وما يمكن أن تفعلهُ بهم إذا سقط السد السوري في وجه جحافلها؟ أسئلةٌ كبيرة تحتاج إلى جديةٍ في التفكير وحسمٍ في القرار.