13 سبتمبر 2025

تسجيل

الصورة وبناء الواقع وصناعة الرأي العام (2)

23 أغسطس 2014

يتساءل الكثيرون عن مهنية وموضوعية مخرجات وسائل الإعلام وإلى أي مدى تعكس هذه الرسائل الواقع كما هو، أم أنها تشكله وتبنيه و"تفبركه" وفق أطر ومرجعيات واتفاقيات محددة. ففي بعض الأحيان يقدم الحدث من زوايا مختلفة وبرؤى متناقضة وكأن الأمر يتعلق بحدثين مختلفين تماما. تعامل وسائل الإعلام مع الحروب يثير عدة تساؤلات وملاحظات، من أهمها أن الإعلام بصفة عامة والصورة بصفة خاصة، أصبحا جزءا لا يتجزأ من الحرب نفسها. ما قدمته وسائل الإعلام أثناء الحرب على غزة لا يخرج عن هذه القاعدة. أي إعلام يتلقاه المشاهد والقارئ والمستمع حول ما يجري في غزة وسوريا والعراق وبؤر التوتر في العالم هذه الأيام؟ وهل من موضوعية وحرية في نقل أحداث ووقائع ما يجري في أرض الميدان، وهل من استقلالية في معالجة القضايا والمسائل التي تحيط بالأزمات والصراعات. صناعات الثقافية أصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، كما أصبحت نموذجا للتعليب والتنميط والتسطيح وإفراغ الثقافة من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني. حسب ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أصبحت الثقافة في القرن العشرين صناعة مثلها مثل الصناعات الأخرى، تخضع لقوانين العرض والطلب وبذلك قوانين السوق. فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل ووفق أنماط معينة تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى. وبذلك اختُصِرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر، الذي يعمر لفترة زمنية محدودة ثم يزول للأبد. أفرزت العولمة الليبرالية تداعيات وانعكاسات كبيرة على المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة والدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع، من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها دون هوادة. فالسلطة الحقيقية في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية وهذه الشركات الكونية يزيد حجمها الاقتصادي أحيانا على ميزانيات بعض الدول والحكومات، بل مجموعة من الدول والحكومات. فالتطور الجيواقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغييرات وتطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية والثقافية على المستوى العالمي. وبذلك أصبحت وسائل الإعلام ذائعة الانتشار، كالصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والشبكات التلفزيونية والإنترنت، تتمركز أكثر فأكثر في يد شركات عملاقة مثل "فياكوم" و"نيوزكورب" و"مايكروسوفت" و"برتلسمان" و"يونايتد غلوبال كوم" و"ديزني" و"تلفونيكا" و"آ أو أل تايم وارنر"، وجنيرال إلكتريك، وغيرها. هذه الشركات العملاقة أصبحت تملك، وبفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة، إمكانات وقدرات هائلة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية، الكتابة، الصوت، والصورة، وفتحت المجال أمام الإنترنت والوسائط المتعددة والثورة الرقمية التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع. وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة أو المجموعات الإعلامية تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، ومستعملة لبث ونشر ذلك، قنوات متعددة ومتنوعة من صحف ومجلات وإذاعات ومحطات تلفزيونية وكوابل وبث فضائي وشبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية والإنترنت. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي، حيث إنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية وعالمية الطابع. وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة ومن خلال آليات الهيمنة والتمركز، تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول والقارات وتصبح بذلك الرافد الفكري والأيديولوجي للعولمة الليبرالية. فلا عولمة دون عولمة وسائل الإعلام الجماهيرية وعولمة الصناعات الإعلامية والثقافية. ويرى إغناسيو راموني، رئيس تحرير "لو موند ديبلوماتيك" أن العولمة هي أيضا وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل الاتصال والأخبار. وفي سياق اهتمامها بتضخيم حجمها واضطرارها لمغازلة السلطات الأخرى، فإن هذه الشركات الكبيرة لا تضع نصب أعينها هدفا مدنيا يجعل منها "السلطة الرابعة" المعنية بتصحيح التجاوزات على القانون واختلال العمل بالنظام الديمقراطي، سعيا إلى تحسين النظام السياسي وتلميعه. فلا رغبة لهذه الشركات في التحول إلى "سلطة رابعة" أو التصرف كسلطة مضادة. والحالة الفنزويلية نموذجية على هذا الصعيد للوضعية الدولية الجديدة التي تشهد مجموعات إعلامية غاضبة تنبطح جهارا للقيام بوظيفة كلاب الحراسة الجديدة لدى النظام الاقتصادي القائم وممارسة دورها كسلطة معادية للشعوب والمواطنين. وهي لا تخوض فقط في سلطتها الإعلامية، بل تمثل الذراع الأيديولوجية للعولمة ووظيفتها احتواء المطالب الشعبية وصولا إلى محاولة الاستيلاء على السلطة السياسية (كما توصل إلى ذلك ديمقراطيا في إيطاليا السيد سيلفيو برلوسكوني، صاحب أكبر مجموعة إعلامية ما وراء جبال الألب)... هكذا تضاف السلطات الإعلامية إلى السلطات الأوليغارشية التقليدية والرجعية الكلاسيكية. وتقوم معا، وباسم حرية التعبير، بمهاجمة البرامج التي تدافع عن حقوق الأكثرية من السكان. تلك هي الواجهة الإعلامية للعولمة وهي تكشف بأكثر الصور وضوحا وبداهة وكاريكاتورية عن أيديولوجية العولمة الليبرالية. نلاحظ من جهة أخرى أن الكثيرين تفاءلوا خيرا وظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة وبذلك مشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار وفي الممارسة السياسية وفي صناعة القرار. لكن الواقع يقول عكس ذلك تماما، حيث إن ظاهرة الاغتراب والتهميش وانتشار ثقافة الاستلاب والاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة، سواء في الشمال أو الجنوب. فيما يخص الشرق الأوسط يرى "جون ألترمان" أن بعقدهم آمالا كبيرة على التطور التكنولوجي العالي; الإنترنت، والتفاعلية والربط الشبكي، يتوقع المتحمسون وأنصار التواصل الرقمي عالما تتوسع فيه سلطة الجماهير، الأمر الذي يؤدي إلى كبح جماح الجبابرة، ورفع رايات الديمقراطية في أرجاء المعمورة. هذه الرؤية لم يتم تحقيقها في الشرق الأوسط ومن غير المحتمل أن تتحقق في الوقت القريب. وفي حقيقة الأمر فإن التطورات التكنولوجية، على المدى القصير، من شأنها عادة زيادة الفوارق في النفوذ والسلطة بين الأغنياء والفقراء. فالفوائد التي تجنى من الابتكارات العصرية تزيد من نفوذ أصحاب المال وذوي الدخل العالي وأصحاب الفرص والشهادات والتدريب الجيد، بينما يحرم الفقر والعزلة الغالبية العظمى من سكان الشرق الأوسط من الاستفادة بشكل مباشر من ابتكارات التكنولوجية العالية.