11 سبتمبر 2025
تسجيلعِبرٌ ودروسُ كثيرة تم استخلاصها من الانقلاب الفاشل في تركيا، ونبدأ بالتغطية الإعلامية التي جاءت متباينة ومختلفة وملونة باختلاف الانتماءات الأيديولوجية والسياسية والفكرية والموقف من الانقلاب نفسه، من قبل مختلف الجهات والأطراف والمؤسسات. فتفننت بعض المؤسسات الإعلامية في التهليل والتطبيل وتقديم التهاني للانقلابيين. فمن الفضائيات من نصب قادة الجيش في الحكم في البلاد ومنهم من "أرشف" نظام أردوغان ووسمه بالفعل الماضي الناقص وبدأ يحلل لعهد جديد تحت قيادة العسكر، ومنهم من تأسف على المباشر على فشل الانقلاب العسكري، ببساطة انكشفت الأقنعة وتبين جليا أن الإعلام هو صناعة مؤدلجة ومسيسة ولها أجندة وأهداف وأطر وإستراتيجيات تتخطى الموضوعية والالتزام والبحث عن الحقيقة. وخير دليل على ذلك هو ذلك النقاش الساخن الذي دار بين منتسبي قناة العربية ونظرائهم في قناة الجزيرة. فتغطية الانقلاب تحكمت فيه قوى خفية تؤمن بالتأطير وبـ"البروزة" السياسية والأيديولوجية للحدث. فهناك مواقف تعددت وتنوعت واختلفت لأسباب أو أخرى حساب التأطير الذي حددته كل مؤسسة إعلامية أو قوى سياسية أو دولة. فالملاحظ يمكن تلخيصه فيما يلي: أولا، جميع القوى الكبرى، لم تُندد بالمحاولة الانقلابية باعتبارها عَملا منافيا للديمقراطية، بل أفضلها اتخذت مواقف عامة تتمنى "السلام" للبلاد أو تُحذِر رعاياها من التعرُّض للخطر، وهذا يعني سياسيا أنها لم تكن تُعارض مبدئيا الانقلاب العسكري كعمل منافٍ للديمقراطية كما سَتَدَّعي فيما بعد.. وهو أول درس علينا أن نستخلصه، أن هذه القوى خاصة تلك التي تزعم أنها راعية للديمقراطية، لا "ترعاها" كموقف مبدئي إنما فقط تستخدمها كأداة من أدوات الهيمنة والابتزاز وأن ما يهمها في آخر المطاف هو مصالحها الدائمة ولو كانت على بحر من الدماء يذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء ماداموا من تلك الشعوب التي لم ترقَ إلى مستوى ما تعتبره تحضُّرا ومدنية، ومن بينها شعوبنا. فالقوى الكبرى كانت تحذر من الإعدام ومن التعسف والظلم واغتصاب الحريات الفردية وحقوق الإنسان. ثانيا، مواقف جميع القوى المعادية للرئيس التركي في العالم العربي خاصة سارعت، قبل أن يَتبيَّن الأمر، إلى الابتهاج بهذا الانقلاب وباركته، بل وأمرت قنواتها الفضائية وصحافتها "الحرة" بالخروج بأبرز العناوين المؤيدة للانقلاب، فكَتَبَ كبار مُعلقيها الافتتاحيات وبشَّر صحفيوها بخبر ما سلف من الانقلابات، دون أن يُدركوا أن كل ذلك سيُصبح بعد ساعات محل سخرية الملايين من المتابعين لتلك القنوات والصحف عبر مواقع اليوتيوب والتواصل الاجتماعي، الذين بلا شك تأكدوا بعد اليوم أن زمن الإعلام الغبي والقائم على التأييد الأعمى للحاكم قد ولّى في مجال بناء الدولة العصرية. ثالثا، مواقف المعارضة التركية التي، رغم رفضها لمشروع "أردوغان"، لم تؤيِّد الانقلابيين، بل عكس ذلك تماما، رفضت هذا الأسلوب في التغيير في الوقت الذي كان بإمكانها أن تَركب الموجة وتَتخذ موقفا انتهازيا وتؤيد عدو عدوها لعلها تحقق بعض المكاسب.. وبهذا أكدت بالفعل أنها معارضة وطنية شريفة تقبل تعرُّضها للقصف مثلها مثل الحزب الحاكم، على أن تُؤيِّد الأساليب غير السلمية وغير المشروعة في الوصول إلى الحكم. وهذا يعني أن الممارسة السياسية في تركيا بلغت درجة النضج وأصبحت تفرق بين المصلحة العامة والمصالح الضيقة لبعض القيادات صاحبة الرؤية القصيرة. فالدرس الأكبر من الانقلاب الفاشل في تركيا الأسبوع الماضي هو أن النظام السياسي المتماسك حقيقة هو ذلك الذي يقوم على ركائز ثلاث: لا يبني وجوده على الدعم الخارجي، ولا يؤمن بالإعلام المزيف القائم على الموالاة العمياء، ولا يُطيل عمره بشَيْطَنة المعارضة أو التشكيك في وطنيتها. وهي خلاصة لعلها تكفي لتعزز الأمل بغدٍ أفضل. لا تزال مصائر الذين ضلعوا في تنفيذ محاولة الانقلاب على الحكم في تركيا، ليلة الجمعة 15 يوليو، غامضة ودون وصف قانوني يحدد نوع العقوبات التي يستحقونها. فالإعدام الذي هتف به جموع المواطنين الذين نزلوا إلى الشارع، تراه السلطة التركية جديرا بالاحترام والاهتمام، كونه نابعا من الشعب، لكن يستوجب إجراءات قانونية لتنفيذه. بينما تعتبره الأسرة الدولية غير منسجم مع رؤاها، وتنصح القيادة التركية بعدم التمادي في فرض القانون، والانجرار إلى غلق مجال الحريات بحجة الرد على ما جرى. ويريد رئيس الوزراء بن علي يلدرم نزع وصف "العسكرية" عن الانقلاب ويكتفي بوصمه بالتمرد. داعيا إلى عدم إلصاق أو تحميل المسؤولية للمؤسسة العسكرية برمتها، حفاظا على تماسكها.. وبالنسبة إلى عقوبة الإعدام فقال إنها "غير واردة في الدستور، لكن تركيا ستبحث إجراء تغييرات لضمان عدم تكرار ما حدث". الدرس التركي يؤكد على وعي الشارع التركي وانقلاب الشعب على الجيش كما يؤكد أن المؤسسات الإعلامية والقوى السياسية الفاعلة في النظام الدولي تهتم بأجندتها ومصالحها قبل أي شيء أخر. فالانقلاب وحتى لو كان غير شرعي ومخالفا لحقوق الإنسان وللأعراف الدولية ليس مهما ويمكن استغلاله وتوظيفه لتحقيق مصالح هذه الدول التي هللت وصفقت للانقلاب إما ضمنيا أو علنا. في النهاية انحاز الشعب لأوردوغان وللنظام القائم الذي حقق لتركيا ولشعبها من تطور ومن إنجازات على مختلف الصعد ما لم يحققه أي زعيم آخر من قبل.