17 سبتمبر 2025
تسجيلتركت عملية "داغليجه 2" التي نفّذها حزب العمال الكردستاني ضد القوات التركية في منطقة حقاري على الحدود العراقية-التركية دهشة لدى فئة من الأتراك. إذ إن العملية النوعية التي أسفرت عن مقتل ثمانية جنود أتراك، تمت في ظل عدة عناوين: الأول أنها جرت في المنطقة نفسها التي تمت فيها عملية كبيرة في العام 2007 وأسفرت عن قتل 24 جنديا تركيا. أي أن التدابير التي اتخذت بعدها لم تحل دون تكرار العملية وبنفس السيناريو فجر 19 حزيران الجاري. ومدى تورط جهات داخل الجيش التركي أو الاستخبارات التركية في تسهيل قيام الأكراد بالعملية. الثاني أن السؤال ارتفع كما لدى كل عملية عن دور طائرات هيرون الإسرائيلية من دون طيار في العجز عن كشف تسلل المقاتلين الأكراد ومدى تورط إسرائيل في العملية. الثالث أن العملية جاءت وسط تصاعد الشائعات الإعلامية في تركيا عن عودة حزب العمال الكردستاني لاتخاذ سوريا منطلقا لعملياته ولعودة النفوذ السوري الكامل على حزب العمال الكردستاني. وما قيل أن العملية أحد أنواع الرد السوري على تورط تركيا في الأزمة السورية ودعمها العملاني للجيش السوري الحر. والرابع إنها جاءت وسط اتساع السعي داخل تركيا عن حل للمسألة الكردية كما لدى حكومة رجب طيب أردوغان كذلك لدى بعض الأوساط الكردية. وما قيل أن العملية جاءت لتخرّب هذه الجهود. والخامس أن العملية حصلت قبل ساعات قليلة من لقاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع رئيس الحكومة التركية أردوغان في المكسيك، ومدى ارتباط العملية باللقاء للتأثير على بحث موضوعات أخرى أكثر أهمية. ليس من عامل واحد أتاح إتمام العملية بنجاح في المكان والتوقيت المناسبين. ويمكن تعداد تفسيرات كثيرة تبدأ ولا تنتهي وكلها يمكن أن تكون صحيحة وواقعية. لكن المشكلة الحقيقية في تركيا أن القادة الأتراك على امتداد العقود الماضية حوّلوها إلى سرطان في الجسم التركي وعلاجه لا يكون بالمهدئات والمسكنات. وفي الأساس، من زاوية طبية، إن الكشف المبكر عن الأورام الخبيثة في الجسم، وحده يمكن أن يحول دون استفحال المرض والفتك بالجسم وصولا إلى موته وبألم شديد. والكشف المبكر هنا هو مقاربة هذه المسألة مقاربة علمية وواقعية وتاريخية وإنسانية. والعجز عن مثل هذه المقاربة هو الذي يجعل تركيا عاجزة عن مواجهة مشكلة الأقليات الإتنية والدينية والمذهبية فيها وليس فقط المشكلة الكردية. وبعد ثمانين عاما على محاولة أتاتورك تصفية العرق الكردي في تركيا لم تجد الحكومة التركية مؤخرا سوى أن تجعل اللغة الكردية درسا اختياريا في المدارس لساعتين أسبوعيا. ورغم عشرات الآلاف من القتلى من الجانبين التركي والكردي على امتداد العقود الماضية هل يمكن الاكتفاء بهذه الخطوة التي تشبه إعطاء مريض السرطان حبة أسبرين؟. لم تعد المسألة الكردية تحتمل العلاجات الترقيعية التي تعكس ذهنية استئصالية تسود كل العالم العربي والإسلامي وليس فقط تركيا في مواجهة قضية الأقليات على اختلافها. لا شك أن الاستعمار قد اشتغل على قضية الأقليات من قرنين وأكثر ولكن الغرب لم يخلق هذه القضية بل جاء وهي موجودة في الأساس على امتداد التاريخ العربي والإسلامي القديم والوسيط والحديث. وكل ما فعله الغرب أنه استغل هذه القضية الموجودة وعمل على تعميقها وفق سياسة فرّق تسد. لكن العلة موجودة عندنا. والتساؤل مشروع دائما: لماذا لا تبادر السلطات عندنا إلى منح كل الأقليات حقوقها حفاظا على وحدة الكيانات الوطنية على الأقل؟ وهل العلاج هو استمرار تجاهل وإنكار هذه الحقوق التي اعترف بها الدين الحنيف عندما جاء في القرآن الكريم "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"؟ وأليس "تعارفوا" هنا هي معرفة الآخر والاعتراف به وبكل ما يحمله من حيثيات وخصوصيات وهوية؟. وإذا كنا واقعيين ألم يكن تقسيم العراق إلى فيدراليتين والسودان إلى دولتين هو نتيجة حتمية لقهر الأقليات وصهرها فجاءت ردة الفعل نزاعات دامية استمرت عقودا ولم تنته إلى إلا التفتيت؟ أليست هذه هي النتيجة الحتمية لقهر الأكراد وصهرهم في تركيا والتي ستكون واقعا في المستقبل إن لم يتم الاعتراف بالهوية الكردية في تركيا؟ وما هذا التطابق الغريب بين كل أنظمة الحكم، الدينية منها والقومية والعلمانية (الحالة التركية)، في العالم الإسلامي في الموقف السلبي من قضايا الأقليات؟ هل من تفسير علمي لهذا التطابق؟ وأليست الحالة التركية نموذجا لهذا التطابق عندما تلتقي مواقف التيارات الإسلامية والعلمانية والقومية، والتي تعاقبت على السلطة في تركيا منذ تسعين عاما، على إنكار الهوية الكردية؟. وأليس النموذج السوداني والعراقي هو النتيجة الحتمية لهذا الإنكار؟