16 سبتمبر 2025
تسجيلتحدثت في مقالتي السابقة عن معاناة أخواتنا في بيوتهن .. ينتظرن من يتعاطف مع مشكلتهن الكبرى .. العنوسة .. تمر الأيام وتطوى السنين وتذبل الفتاة وتذوب حياء من أن تطالب والدها أو أخاها بأن يبحث لها عن زوج .. وقلت هذه مسؤولية لم يستنكف عنها أكبر الرجال أنفة وبأسا مثل عمر، فقد عرض ابنته على أبي بكر وعثمان بعدما تأيمت حتى رزقه الله تعالى بخير زوج لها: نبي الله، وأعظم بذلك من أجر لمن حسنت نيته وصفت سريرته. فالبنات إذن يعانين معاناة شديدة وحري بالعقلاء وأصحاب القلوب الرحيمة من أهاليهن ألا تأخذهم الأنفة عن البحث عن حل تماما كمثل ما كانوا سيفعلون لو تعرضت ابنتهم هذه لمرض أو حاجة من الحوائج المادية .. فالعضل هو التحكم في مصير النساء ومنعهن من الزواج لغير سبب ولغة يقال عَضَل الرجل أخته وابنته يَعْضُلُها يَعْضِلُها عَضْلاً - إذا منعها من التزويج، وكذلك عضل الرجل امرأته .. حيث يظل يطلقها ثم يعيدها قبل انتهاء عدتها ليضر بها ويؤذيها وكل ذلك حرمه الشرع وقد استخدم العرب كلمة العضل وصفا لكل متعنت قال عمر رضي الله عنه: أعْضَلَ بي أهل الكوفة ما يَرْضَون بأمير ولا يرضاهم أمير. لقد نهى القرآن الكريم عن ذلك العضل في قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) وسبب نزولها رواه البخاري من أن الآية نزلت في معقل بن يسار حيث كان قد زوج أخته لرجل فطلقها زوجها ثم أراد الرجوع إليها ثانياً فأبى أخوها معقل أن تعود إليه مع كونها راغبة فيه .. فنزلت الآية تنهى عن ذلك وما أروع ما نبهت الآية إليه من اشتياق الطرفين للآخر وقد نقل عن الشافعي رضي اللّه عنه أنه قال: إن هذه الآية أصرح آية في الدلالة على ضرورة الولي. بيد أن هذه الولاية ليست على إطلاقها بحيث تمنع البنت من الزواج مطلقا وبدون سبب أو لسبب واه كانتظار ابن عمها الذي لا ترغب فيه فإذا أصر الأولياء على العضل فإن أقرب الأقوال إلى الواقع أن تبدأ البنت بطلب ذلك من العصبة وعَصَبةُ الرجل بنوه وقرابته لأبيه سُمُوا بذلك لأنهم عَصَبُوا به أي أحاطوا به والأب طرف والابن والعم جانب والأخ جانب (كذا في مختار الصحاح) فإن أبوا فلها أن ترفع أمرها للقضاء فيزوجها الحاكم. سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مسألة مشابهة فقال ما معناه إذا خطبها من يصلح لها فعليهم أن يزوجوها فإن امتنعوا من ذلك زوجها الحاكم أو العصبة إن كان له عصبة غير أولاده لكن من العلماء من يقدم الحاكم إذا عضل الولي الأقرب وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية ومنهم من يقدم العصبة كأبي حنيفة في المشهور عنه فإذا لم يكن له عصبة زوج الحاكم باتفاق العلماء ولو امتنع العصبة كلهم زوج الحاكم بالاتفاق وإذا أذن العصبة للحاكم جاز باتفاق العلماء) "2" ونعود فنقول إن حياء البنت وإبقاءها على أهلها وإكبارها بهم يمنعها من رفع الأمر إلى القضاء .. فلابد لأوليائها أن يحفظوا لها كرامتها تلك .. ويبقى الإذن بهذا صالحا للبعض.. وهذا العضل ليس هو سبب العنوسة الوحيد كما أسلفت بل أحيانا تقف العوائد والتباهي عقبة كئودا في سبيل تزويج الفتيات .. زيادة المهور ومتطلبات الزواج تخوف الفتيان من الإقدام وقد تدفع الفتيات أنفسهن إلى تأجيل الزواج حتى يأتي من يدفع أكثر لا من يبني بيتا على المودة والرحمة كما أمر الله تعالى؛ وهذا كله مخالف لما شرعه الله تعالى من تيسير الزواج وإشاعته كمنطلق لعصمة المجتمع ومحافظة على نفسية أفراده واستثمار لطاقاتهم فيما ينفعهم وينفع أمتهم. وانظر كيف كان فهم السلف الصالح لقضية تيسير الزواج: سئل سعيد بن المسيب - رحمه الله - عن حديث (خير النساء أيسرهن مهراً) كيف تكون حسناء ورخيصة المهر؟ فقال سعيد: (يا هذا انظر كيف قلت أهم يساومون في بهيمة لا تعقل؟ أتراها بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس؟. (اتقوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا" (النساء:1). وجاء في وصية ابن جني لبنيه: (يا بني إن الجمال ونضارة الشباب تزيلها السنون، وإن المال غاد ورائح، ولا يبقى إلا الدين، فاظفر بذات الدين تربت يداك) وقال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور:32) أي لا تمتنعوا عن التزوج بسبب فقر الرجل والمرأة إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضاء الله واعتصاما من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي حديث أبي هريرة: أن رسول الله: قال ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء. أخرجه ابن ماجة في سننه فإن قيل فقد نجد الناكح لا يستغني قلنا لا يلزم أن يكون هذا على الدوام بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد وقد قيل يغنيه أي يغني النفس وفي الصحيح ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس). نحن نعاني من مشكلة العنوسة المجتمع كله يعاني من ذلك فيجب ألا ندفن رؤوسنا في الرمال. وقد أظهرت دراسة حديثة عن أسباب تأخر سن الزواج في دولة الإمارات -كمثال- نشرت في إحدى الصحف المحلية أن نحو 50% من الشباب يرون أن الشروط التعجيزية التي يضعها الأهل تقف حجر عثرة في طريق إتمام زواجهم المبكر، وهي السبب في عزوفهم عن الزواج. وأوضحت الدراسة التي أعدتها إحدى الجمعيات النسائية بالإمارات أن مطالبة أهل الفتاة بمهر كبير، ومكان متسع، وسيارة حديثة تعطل الشباب عن التقدم للزواج في سن صغيرة حتى يتمكن من جمع مبلغ ضخم يغطي هذه المطالبة. و65% من الشباب يقولون: إن الفتاة تؤجل الموافقة على الزواج انتظارا لتقدم الأفضل. فحتى متى نترك هذه المشكلة دون توجيه ونصح بل ودون تقنين إن كان هذا ممكنا؟..