12 سبتمبر 2025
تسجيلأصبح حديث الانتخابات الرئاسية هو حديث الساعة في مصر فلا تكاد تجلس مع واحد تعرفه أو لا تعرفه إلا ويثار السؤال التقليدي من ستنتخب؟ وهذا شيء طبيعي على شعب ينتخب رئيسه للمرة الأولى في تاريخه، أما غير الطبيعي أو بالأحرى المثير للدهشة فهو أن قطاعا كبيرا ممن تسألهم هذا السؤال، يجيبونك بعزمهم اختيار واحد من رموز النظام السابق. تتصور أن الأمر مختلط عليه، فتذكره بأن فلان هذا من رموز النظام الذي قامت ضده ثوره، فيرد عليك بأن هذا بالضبط ما سيجعله يعطيه صوته. أصحاب هذا الرأي ليسوا قلة من الأفراد تقابلهم بصعوبة، وإنما هم قطاع يعتد به ممن يرون أن الأوضاع لابد وأن تعود إلى نصابها الصحيح، وذلك باستعادة نفس الأشخاص الذين يفهمون ويعرفون كيف يديرون البلد. وفي الوقت نفسه فإن أصحاب هذا الرأي ليسوا بالضرورة من فلول النظام السابق ممن كانوا ينتمون إلى زمرة الفساد التي كانت تحكم مصر، ولكنهم في الأغلب الأعم مواطنون بسطاء لم يحوزوا أي مكاسب طوال فترة الحكم السابق، ولم يكونوا يوما مستفيدين من أي تسهيلات يمنحها النظام لمريديه، ورغم ذلك فإنهم يتوقون لعودة النظام القديم، والذي يرون أن عودته تضمن تحقيق الأمن والاستقرار، الذي لا يجيد تحقيقه إلا من تمرس على الحكم وخبر بواطن الأمور وتعرف على مصر من الداخل. ورغم تهافت معظم هذا المبررات إلا أنها بالنسبة لهذا القطاع بمثابة قناعات يصعب تغييرها. وبناء على استقراء مدى شيوع هذه القناعات بين المصريين فإنه يمكن تصور أن النسب التي سيحصل عليها مرشحو النظام القديم لن تكون بالنسب القليلة. خاصة في ضوء ما يقوم به هؤلاء المرشحون من استثمار لفزاعة الوضع الأمني المتردي للحصول على أصوات المترددين من الناخبين، فضلاً عما يثيرونه من أن انتخابهم هو الضمانة الوحيدة للحيلولة دون اكتمال سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم. وفي ضوء أن قطاعاً من الناخبين مهيأ للاقتناع بهذه الدعايا السلبية، فإن حظوظ من يثيرون هذه الدعايا تزداد مع استمرار ترديدها. الغريب أن هذه الأفكار قد بدأت تتسرب حتى إلى عدد من الفئات التي عرف عنها موالاتها التقليدية للتيار الإسلامي. آخر من قابلت من هؤلاء كان سائق أجرة بسيط، ملتح ولكنه لم يكن متعاطفا على الإطلاق مع الإسلاميين، وإنما على العكس كان يعتقد أن الإسلام الحقيقي تلخصه عبارة "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، والتي من وجهة نظره تبرر وتسمح لكل رموز النظام القديم بالعودة إلى تبوؤ مناصب الزعامة في مصر بعد الثورة. وكان صاحبنا هذا يرى أن الإسلاميين قد أساؤوا إلى أنفسهم باعتراضهم على عودة هؤلاء إلى الحكم، رغم أنهم - من وجهة نظره - أقدر من يدير البلاد وينظم شؤونها، بحكم أنهم أكثر من يفهم النظام ويعرف خباياه. سألته بهدوء حذر، وهل من العدل أن تظل السلطة حكرا على جماعة معينة من الناس فيما يستبعد كل من عداهم لا لشيء إلا لأن حظهم قد جعلهم خارج دوائر السلطة في الماضي، فرد بعنف إن البلد تحتاج إلى شخص يعيد إليها الأمن الذي أطاحت به الثورة، شخص يفهم معنى السلطة والحكم وليس شخصا جديدا على السلطة ولا يفهم معنى حكم دولة كبرى مثل مصر، فأعدت السؤال ولكن بطريقة أخرى وقلت له: وهل من العدل أن يمنع أبناء البسطاء من الالتحاق بالوظائف المرموقة فقط لأن من حظهم العاثر أن آباءهم لم يدخلوا يوما دوائر النفوذ والتأثير. ثم وجهت إليه الكلام مباشرة قائلاً: هل ترضى أن يحرم ابنك من أن يكون سفيرا أو وزيرا لا لشيء إلا لأنك لم تكن في يوم من الأيام فردا من المرضي عنهم ولم تكن في يوم من الأيام من أفراد النظام الذين يعرفون خبايا البلاد وتفاصيل الحكم؟ ارتبك للحظة ولكنه سارع بالقول إنه عند انتخاب فلان رئيسا للجمهورية، فسوف يكون هناك قانون يعطي كل ذي حق حقه، ولن يكون أحد أعلى من القانون، سألته مرة أخرى: إذا سلمنا بأن فلانا هذا كان جزءا من نظام لم يفكر في تطبيق القانون إلا لمصلحته، وكان مستعدا دوما لخرق ما يضعه بنفسه من قوانين لعلاقات شخصية ومجاملات مصلحية فما الذي يضمن أن ضميره سيستيقظ ليطبق القانون على الجميع على نحو عادل إذا ما انتخبه الناس. لم يحر صاحبي جواباً، ولكنه ردد من جديد، سيكون هناك قانون بالتأكيد وسيكون هناك عدل. لم أشأ أن أضغط عليه أكثر من ذلك، فقد كان واضحا أنه قد استقر على رأيه حتى لو تبين له أن الصواب في عكسه، لم يكن يعنيه أن يستمر استئثار فئة ضيقة من الناس بمقدرات شعب بأكمله، ولكن عند الحديث عن ابنه تحركت مشاعره، فحتى لو كان الإنسان قد باع حظ نفسه من العيش الكريم فإنه يظل محتفظا في نفسه بالرغبة في أن يجد أولاده من بعده فرصة أفضل للحياة، لم يكن يستطيع أن يجادل في ذلك، ولكنه تعلق بأن المستقبل في ظل حكم نفس رموز النظام القديم لابد وأن يكون أفضل، وأن القانون سيطبق على الجميع، من دون أن يجد سببا معقولا واحدا لذلك. من المؤسف أن هذا المواطن وغيره ممن يسعون إلى القضاء على الثورة المصرية بإعادة رموز النظام القديم إلى الحكم هم من قامت الثورة لتنتصر لحقوقهم التي سلبت ولتحقق لهم العيش الكريم الذي حرموا طويلاً منه، ولكن هذه هي ضريبة الديمقراطية التي يجربها المصريون للمرة الأولى، كل ما يمكن أن يؤمله المرء إزاء هذه التجربة الجديدة أن تكتب نتيجتها تاريخ ميلاد ثان للثورة المصرية لا أن تكتب شهادة وفاة مبكرة لها.