02 نوفمبر 2025

تسجيل

مقتضيات وتحديات الأمن الفكري

23 أبريل 2022

تنفق الدول على أمنها القومي بمفهومه الضيق انفاق من لا يخشى الفقر، فتنشئ الترسانات العسكرية وتؤمن حدودها وأجواءها، لكنها تنسى تأمين وتحصين قيمها وثقافتها، فتؤتى تلك الدول من حيث لا تحتسب، وتفقد طمأنينتها على سلامة فكرها وقيمها، وتفاعل مجتمعها برشد مع الثقافات الأخرى، ومعالجة مظاهر الانحراف الفكري في النفس والمجتمع. وهنا ينشأ تهديد جدي للأمن الوطني أو أحد مقوماته الفكرية، والعقدية، والثقافية، والأخلاقية. ولذا تنطلق أهمية الأمن الفكري من أهمية الأمن الشامل للدولة والمجتمع، وهو مطلب حيوي للحياة الآمنة والمستقرة، فحاجة الإنسان إلى أن يعيش آمناً من الحاجات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها في شتى جوانب الحياة. والأمن هو سكون القلب واطمئنانه، وكذلك عدم توقع أي مكروه في المستقبل، ففي ظله يكون الإنسان مطمئنًا في نفسه، مستقرا في وطنه، سالما من كل ما ينتقص دينه، أو عقله، أو عرضه، أو ماله. فالأمن الفكري هو أن يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية. وسلامة فكر الإنسان تعني تحصينه من الانحراف والخروج عن الوسطية، والاعتدال، لا سيما في فهم الأمور الدينية، والسياسية. ونقيض الأمن الفكري تفرق الأمة وتشرذمها شيعًا وأحزابًا، وتتنافر قلوب أبنائها، ليصبح بأسهم بينهم شديداً. ويستهدف الهجوم الفكري عادة التشكيك بالمؤسسات الدينية والاجتماعية والدعوة إلى التحلل الخلقي، ونشر الرذيلة، والبعد عن القيم والمبادئ، وقد يتخذ الهجوم أسلوب الحق الذي يراد به باطلا بنشر الغلو في الدين، والدعوة إلى التطرف، والإرهاب. والأمن الفكري احتراز ضروري يمنع وقوع الفأس في الرأس ويمنع الجريمة قبل وقوعها؛ فكل فعل هو نتاج منطقي للفكر والتصورات التي تسبقه، فإن بقي الفكر سليماً كانت التصرفات والأفعال سليمة جيدة، والعكس صحيح. اليوم ومع تسلط الإعلام الجديد على رقاب الناس، صغارا وكبارا، متعلمين وغير متعلمين، فإن الغالبية يستقون معلوماتهم ومعارفهم من خلال هذا البعبع سعيا لزيادة المعرفة واشباع اهتماماتهم. فهو معول هدم خطير لكونه يوجه الفكر، ويغير ثوابته. وفي عهد ما قبل الإعلام الجديد كان بالإمكان التحكم في وسائل الإعلام التقليدي، المطبوع والمسموع والمرئي، ومراقبتها، وتقويم محتواها إن كان سلبياً. إن الأمن الفكري يتطلب زيادة درجة الوعي الأمني من خلال توعية أفرد المجتمع عبر مختلف منصات الإعلام الجديد بكيفية محاربة الجرائم بشتى أنواعها، فضلا عن ابداء عناية خاصة بتوعية فئة الشباب بأساليب الاستقطاب الفكري السالب. اليوم يحتدم الجدل حول مضمون الإعلام الجديد أو ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي وفي خضم ذلك تنتصب مقاربة جدية بين مضمونها المنفلت والمتحرر من كل قيد وبين مضمون وسائل الاعلام التقليدية المقيد والمضبوط بالاعراف المهنية الصارمة والقوانين الرادعة. وبدون شك فإن القلق يستبد اليوم بالمشفقين بسبب تراجع تأثير وسائل الإعلام التقليدية بمضمونها الجاد، في مقابل الانتشار المذهل لوسائل التواصل الاجتماعي وتصاعد الاقبال عليها على حساب الاعلام المؤسساتي. وبدا الأمر وكأنه تنافس وتصارع بين العقاد وشكوكو. ودارت قصة العقاد وشكوكو التي سبق الإشارة إليها عندما سأل صحفي الأديب الشهير ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ذات مرة: من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ؟، وشكوكو مونولوجست هزلي مشهور، فرد عليه العقاد مستغربا من هو ﺷﻜﻮﻛﻮ؟. وعندما بلغت القصة ﺸﻜﻮﻛﻮ قال للصحفي: "قول لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف على ﺭﺻﻴﻒ مقابل، ﻭلنرى إلى أي منا سيتجمع الناس". وهنا رد العقاد: "قل ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻭﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺭﺻﻴﻒ ﻭيدع راقصة ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ ﺍلثاﻧﻲ ﻭﻳﺸﻮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ إلى من منهما سيتجمع الناس؟". ولعل المسؤولية التضامنية الوطنية تجاه تحقيق الأمن الفكري للدولة والمجتمع لا تقف عند الإعلام فحسب، فللجامعات دور مهم في تحقيق الأمن الفكري بالعمل على تحقيق سلامة الفكر من الانحراف، فالجامعات ومؤسسات التعليم عموما لا تتوقف مهمتها عند قضية التعليم، إذ إنها تعنى كذلك برفع مستوى الوعي الفكري لدى فئة الشباب، وهي مرحلة عمرية اساسية في التكوين الفكري الأمر الذي يعظّم أهمية الهدف الوقائي عبر هذه الفئة العمرية. إن عالمنا العربي والإسلامي اليوم أمام معطيات محددة تفرزها العولمة من أبرزها أن العولمة مصدرها ومركزها الغرب؛ وأنها ليست أدوات ووسائل تقنية حديثة أو أنماط إنتاج جديدة بل هي مضامين قيمية وثقافية، ومن هنا يتعزز الخوف والتحفظ في التعامل معها. وليس خافيا أن أدوات الهدم الفكري تبدأ بمحاولات توحيد أنماط عيش الناس وأذواقهم ورغباتهم مرورا بسلوكهم وطرق تفكيرهم وانتهاء بنظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالم ومن حولهم. لقد أصبح واقعنا الراهن مرهوناً بما تنقله وتتداوله وتؤثر به وسائل التواصل الحالية ولدرجة تصل إلى حالة البلبلة أو التشوش أو الاضطراب الفكري والسلوكي في بعض الاحوال. ووفقا لأولئك لباحثين أن نمط التعددية الناشئ عن وسائل الاتصال الاجتماعي إياها، لم يعد يشكل نموذج النهج الديمقراطي القويم أو المطلوب، بقدر ما أصبح نهجاً يفتقر إلى الاتزان وحسن الترتيب وتعوزه الرؤية المنظمة التي كان ينطلق منها مفكرو ودعاة وممارسو الديمقراطية.