14 سبتمبر 2025
تسجيلنشطت الخارجية المصرية مؤخرا في توزيع الاتهامات على عدد من الأطراف التي تتهمها بانتهاك الأمن القومي والتدخل في الشأن الداخلي، وقد ضمت القائمة (تركيا وتونس وليبيا وقطر)، وحركات سياسية (حركة حماس) وقنوات فضائية (قناة الجزيرة)، وشخصيات (كل من يؤيد الشرعية ويعترض على الانقلاب). هذا النشاط الدبلوماسي المكثف يعكس تحولا لافتا في العقيدة السياسية الرسمية، التي كانت تعتبر حتى وقت قريب أن التهديد الأساس للأمن القومي المصري؛ يصدر عن الجارة المشاغبة إسرائيل، وليس عن أحد من المذكورين أعلاه.الغريب أن إسرائيل لم تقصر في انتهاك الأمن القومي المصري منذ قيام ثورة يناير 2011، وتدخلت أكثر من مرة في الشأن الداخلي المصري، ولكنها رغم ذلك تبدو بمأمن من توجيه أي اتهام لها، بل إنها تحولت إلى صديق تتقاطع مصالحه مع المصالح المصرية، وذلك وفق الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يتصدره الآن من يوصفون بالخبراء الاستراتيجيين والأمنيين. ورغم أن التهديد الإسرائيلي للأمن القومي المصري يعد بمثابة معطى ثابت في سياستها الإقليمية، إلا أنه قد تفاقم في أعقاب ثورة يناير، حيث جدت أواضع اعتبرتها إسرائيل بمثابة مبررات لها لكي تشن حملة من الخروقات للشأن المصري والانتهاكات للحدود المصرية. ويأتي في مقدمة المبررات التي تسوقها إسرائيل في هذا الصدد (1) تزايد نشاط الجماعات المسلحة التي تعمل ضدها انطلاقا من سيناء، (2) تدفق كميات كبيرة من الأسلحة من ليبيا، ودخول بعضها إلى غزة عن طريق الأنفاق، (3) عدم انتهاج نظام الدكتور مرسي —وقت أن كان في السلطة— نهجا صارما في الرد بحسم على هذه النشاطات. لهذه الحيثيات مجتمعة اعتبرت إسرائيل أن من حقها أن تمارس التدخل في الشأن المصري لتعويض القصور الأمني وعدم الحسم السياسي، مع تطوعها بتصدير إنكار لفظي، الغرض منه عدم إحراج الطرف الآخر (النظام المصري) والسماح له أن يتخذ من هذا الإنكار ذريعة للتهرب من عبء الرد على الانتهاكات الإسرائيلية أو حتى إدانة ما تقوم به. أما الخروقات الإسرائيلية للأمن القومي المصري فكثيرة، نسلط الضوء هنا على أربعة منها. العملية الأولى وهي الأخطر على الإطلاق جرت في أغسطس 2011 حيث قام الجيش الإسرائيلي بمطاردة مجموعة من المسلحين عبر الحدود المصرية، وتبادل معهم إطلاق النار، الأمر الذي أدى إلى مقتل خمسة جنود مصريين. وذلك في أعقاب هجوم نفذته المجموعة المسلحة ضد أهداف إسرائيلية. وقد أثار مقتل الجنود الخمسة أزمة بين مصر وإسرائيل، وأدى إلى احتجاجات حاشدة أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة. وماطلت إسرائيل في الاعتراف بجريمتها، كما ماطلت في الاعتذار، وفي النهاية جاء اعتذارها باردا ومراوغا. أما التحقيق المشترك الذي وافقت إسرائيل على إجرائه في 25 من أغسطس 2011 فلا يعرف على وجه اليقين إلى ماذا انتهى!الغريب أن الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية تجنبت الإشارة إلى الدور الإسرائيلي عند نعيها لقتلاها في الهجوم. واكتفت بالحديث عن أنه في إطار الإجراءات الأمنية التي تشهدها الحدود المصرية بسيناء، فوجئت دورية أمنية من قوات الأمن المركزي بإطلاق النيران وبصورة عشوائية بـ"الجانب الحدودي الآخر" حيث طالت النيران عدداً من أفراد قوة الشرطة وأسفرت عن استشهاد خمسة منهم.العملية الثانية تمت في 26 أغسطس 2012، حيث نجحت إحدى الفرق المتعاونة مع الموساد في اغتيال المواطن "إبراهيم عويضة"، في قرية "الخريزة" بوسط سيناء. وأشارت المصادر إلى أن المجني عليه تم استهدافه بدس شريحة إلكترونية في دراجته البخارية مما سهل استهدافه، وكشفت عن أن القتيل مصنف ضمن الجماعات الجهادية ومتورط في قتل عدد من الإسرائيليين، الأمر الذي جعل إسرائيل تضعه على قائمة المطلوبين لديها وتتدخل دون الرجوع للسلطات المصرية لتصفيته.ومرة ثالثة وفي 21 يونيو 2013 تتدخل إسرائيل استخبارتيا وتقوم باختطاف وائل أبو ريدة، القيادي بحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، والذي كان في زيارة لمصر لعلاج ابنه. وقد تم اختطافه بواسطة مجموعة متعاونة مع المخابرات الإسرائيلية بعد استدراجه من القاهرة. وقد ذكرت المصادر الصحفية، أن أسرته في غزة قد تلقت اتصالاً عقب اختطافه يخبرهم أن أبو ريدة معتقل في السجون الإسرائيلية، قبل أن تصدر محكمة إسرائيلية أمرا بحظر النشر في هذه القضية.وأخيرا وفي 9 أغسطس 2013 نقلت وكالة أنباء "أسوشيتدبرس" تصريحات عن مصادر أمنية مفادها أن إسرائيل أطلقت صاروخا في شمال سيناء أدى إلى وفاة خمسة من جماعة "أنصار بيت المقدس" قيل أنهم كانوا على وشك مهاجمة إحدى المستوطنات الإسرائيلية. حينها أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن الهجوم الإسرائيلي قد تم بتنسيق مع الجانب المصري. فيما نفى المتحدث المصري علمه بوقوع ذلك الهجوم، قبل أن يعود ويؤكد أن القصف قامت به القوات المصرية. لاحقا أكد التلفزيون العبري أن الجيش المصري هو من زود الجانب الإسرائيلي بالمعلومات اللازمة لتنفيذ الهجوم. ما أوقع النظام المصري في حرج بالغ، وإن كان قد استمر على تأكيده بأنه هو وليس إسرائيل من قام بتنفيذ هذه العملية. هذه العمليات وغيرها، والتي لا تلقى التغطية الإعلامية المناسبة، هي ما يمثل التهديد الحقيقي للأمن القومي المصري، وتشكل ليس فقط تدخلا في الشأن القومي ولكن انتهاكا لسيادة الدولة، وعليه فإنها أولى باهتمام النظام وتركيزه، بدلا من المعارك الفرعية التي يشنها على أعداء وهميين، محاولا من خلالها أن يملأ ثغرة الشرعية التي لم يستطع علاجها بعد أكثر من ثمانية أشهر من انقلابه عليها.